المواضيع الأخيرة
بحـث
دخول
مايو 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | ||
6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 |
13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 |
20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 |
27 | 28 | 29 | 30 | 31 |
قصة إسلامي
صفحة 1 من اصل 1
قصة إسلامي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين
و الصلاة و السلام على سيد المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين
أما بعد ...
فهذه قصتي أحببت أن أرويها لما فيها من فوائد و عبَر ، و أشهد الله تعالى على
صدقي و عدم مبالغتي في أدنى أمر من الأمور . جعلنا الله و إياكم من الذين أشارت
إليهم أعلام الهداية و وضحت لهم طريق النجاة و سلكوا سبيل الإخلاص و اليقين .
نشأت و ترعرعت في أسرة تحب العلم و تحرص عليه ، فأخي مهندس وأخواتي حاصلات على
شهادات جامعية عليا من طب و هندسة و آداب و تجارة.
أما والدي و والدتي فقد استطاعوا بعون الله تعالى أن يغرسوا فينا الكثير من
الأخلاق الحسنة و المُثل العليا و أن يكونوا لنا قدوة في هذه الأخلاق . فوالدي
ربّانا على المال الحلال، و مع أنه كان برتبة عميد و كان بإمكانه أن يجمع ثروة
فيما لا يرضي الله تعالى و لكنه أبى ذلك . و والدتي غرست فينا الأدب و العفّة و
التهذيب ، وكان كل منهما يخاف علينا و يحرص على سمعتنا . أما من ناحية الاعتقاد
، فأفراد عائلتي ما كانوا من المسلمين السّنة ،بل كانوا ينتمون إلى إحدى
الطوائف المنشقّة عن الإسلام .
عشت طفولة ممتعة بين أحضان الطبيعة ، و انتقلت من المرحلة الإبتدائية إلى
المرحلة الإعدادية و الثانوية ، و درست بعدها في معهد لإعداد المدرسين قسم
اللغة الإنكليزية ،ثم تعيّنت بعد التخرج كمدرّسة في إحدى المدارس الإعدادية في
منطقة ريفية . و بما أني كنت طموحة للأفضل ، فقد درست البكالوريا ثانية و دخلت
كلية الآداب . كل هذه السنين التي مرّت من عمري ، كانت تبدو للعيان لامعة
برّاقة ، ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من زجاج متكسّر ! فمع أني حققت نجاحاً في
مجالات شتى ... إلا أني كنت ضمنياً ضائعة وأفتقد إلى الطمأنينة و السّكينة
الرّوحية !! و خاصة في تلك السنوات الخدّاعات التي ظهر فيها الملاحدة و الكفرة
والعلمانيون لينفثوا سمومهم في عقول و نفوس الناس إلا من رحم ربّك ! فأفسدوا
الناس عامة بدعوتهم للتخلي عن إيمانهم و مبادئهم ، وأفسدوا المرأة خاصة بدعوتها
إلى التبرج و السفور و مزاحمة الرجال و مخالفة فطرتها بحجة التحرر و التخلص من
الرجعية و التخلّف !!
و بهذا ، فقد كنت ناجحة في المجال العلمي، لكن و للأسف ، كنت أنهل ثقافتي من
ماء عكر و أنا أحسب أني أحسن صنعاً !
كنت ناجحة في المجال التعليمي ، لكني بالواقع ضللت و أضللت و أنا أظن أني صلحت
و أُصلحت !!
كنت ناجحة في الحياة الإجتماعية ، و يلتفّ حولي الكثير ون يطرونني و يصفّقون لي
، و لكني ضمنيّاً كنت ضائعة و متشتتة !!
أربع و عشرون عاماً مرّوا من حياتي و أنا أعيش للحياة الدنيا ، أمرح و أضحك ،
ألبس أجمل الثياب و أتزين بأبهى زينة ، حفلات رحلات زيارات ... أما التفكير في
الآخرة فقد كنت أتناساه و لكنه ما كان ينساني !! كان يراودني من حين لآخر ليزعج
صفوتي و يقلق راحتي لبرهة من الزمن ثم يرتحل !! فكان يحضرني في مناسبات
يُقدّرها الله تعالى لي كأن أرى جنازة مثلاً تمرّ من أمامي ، أو أن أسمع قرآناً
أو قصة دينية أو وعظاً من التلفاز أو من معلمة الديانة !! فقد كنت منذ نعومة
أظافري أتأثر كثيراً و تدمع عيوني لسماع هذه الأشياء لكن لفترة وجيزة فقط ثم
أعود لأنغمس في الدنيا . المهم ، بقيت على هذا المنوال حتى جاء عام 1994 ليكون
بداية لتحوّل جذري في حياتي ، فقد بدأت الابتلاءات و المحن بشتى أنواعها تتوالى
عليّ و على عائلتي ،أزمات و أزمات اجتمعت لتهزّني من الأعماق و تجعلني أميل نحو
الهدوء و الحزن . و حُبب إلى نفسي قراءة الكتب التي تتعلق بفلسفة الوجود و
الإنسان و الروحانيات . بعد حين من الزمن ، شاء الله تعالى أن أزور خالي في
المشفى لعيادته بعد أن أجرى عملية جراحية ، و حين دخلت إلى غرفته فوجئت بضعفه و
شحوبه و حالته المتردّية ، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة متمدداً لا حول له و لا قوة
!! الجميع من حوله واقفون عاجزون لا يستطيعون نفعه بشيء !! شهدت منظراً ما
شهدته في حياتي قط ، منظر إنسان يخصّني يصارع الموت و يُحتضر ، ثم توفي و بدأ
البكاء و الصراخ يعلو ، و الرعب يسود الجو ، حاولت الثبات قدر المستطاع كي
أصبّر أسرته و أواسيهم ، لكن هذا الثبات لم يدم أكثر من فترة قليلة ثم انهارت
أعصابي بعدها و أخذوني إلى المنزل ليبعدوني عن هذا الحدث ،إلا أن هذا الحدث كان
قد انتقل ليعيش في أعماقي ، فقد صار التفكير بالموت هاجسي ، و التساؤلات خواطري
: " كيف يموت الإنسان ؟ أين تذهب روحه ؟ ماذا بعد الموت ؟ هل فكرة التقمّص
صحيحة أم ً أن الروح تعيش حياة برزخية إلى يوم القيامة ؟ هل يوجد عذاب في القبر
؟ أكيد سأموت يوماً ما ، فماذا سيحل ّ بي ؟! هل أنا على الصراط
المستقيم يا ترى أم أني في ضلال مبين ؟! ماذا ...و هل ... و كيف ...؟؟؟!!! "
عشت في دوامة و صراع فكري رهيب أرّقني و أحرقني ... و روّعت فكرة الموت و
الأمور ( الميتافيزيقية ) أيامي و لياليّ ، و جعلتني أخاف و أرتعب من البقاء في
المنزل بمفردي أو من النوم في الغرفة لوحدي دون أخواتي،و خيّمت عليّ الأوهام في
النهار و الكوابيس في الليل حتى اسودّت عيشتي ! حاولت أن أقرأ في بعض كتب
المذهب عندنا و لكني ما وجدت فيها ما يشفي آلامي . فماذا عساي أن أفعل مع هذه
المعضلة النفسيّة التي ألمّت بي؟ لا بد من الخروج منها و إلا أهلكتني !!
فكرت و فكرت ...و وصلت إلى قناعة معينة ، أنه يكفيني أن أؤمن بالله و أن أبتعد
عن المحرّمات و أحب الناس كلّهم و لا أؤذي أحداً ، و أن أعمل أعمالاً خيرية و
كفى ... ثم قررت أن أملأ أوقاتي كلّها كي لا يبقى عندي أدنى و قت من الفراغ ...
صرت أداوم في المدرسة صباحاً ، ثم في الجامعة ظهراً و عصراً ، و في المساء كنت
أعطي دروساً خصوصية لبعض الطالبات ، ثم أعود للمنزل بعد أن ينفذ وقودي فأغطّ في
نوم عميق حتى الصباح . أما يوم الجمعة فكان لتنظيف المنزل و الحياة الإجتماعية
...و يوم الثلاثاء يوم إجازتي ، خصصته لممارسة هواية من هواياتي ...فاشتريت آلة
موسيقية ( أورغ ) ، و سجّلت بمعهد خاص لتعليم العزف ... و هكذا صارت أوقاتي
مملوءة تماماً . بقيت على هذه الحال ما شاء الله لي أن أبقى ، و ظننت أني
انتصرت على أزماتي بهروبي من ذاتي ... لكن الله سبحانه أراد أن يُنبهني و
يذكّرني ! وكأنه يقول لي ( يا أمَتي أين المفرّ ؟) ... فقد مرضت مرضاً شديداً
بعد هذا العناء الطويل ، و أصبت بحمّى ألزمتني الفراش ، و تراجعت صحّتي و ضعف
جسدي و شعرت أنه قد اقترب أجلي ، تأزّمت و خفت من المصير المجهول الذي ينتظرني
، بكيت و تضرّعت إلى الله تعالى...وناجيته بدموع غزيرة و قلب محروق :
( يا رب ، سبحانك ، لماذا خلقتني و أين المصير ؟ يا رب ، هل أنا على حق أم على
باطل ؟ هل الملّة و المذهب الذي أنتمي إليه صحيح أم زائف ؟ لماذا وُلدت على هذا
المذهب و لم أولَد في غيره ؟ و هل مفروض علي أن أتّبع آبائي و أجدادي أم أني
أستطيع أن أبدّل مذهبي ؟!و إن كان، فأي دين أو مذهب أختار ؟! يا الله ...يا
رحمن يا رحيم ...لا تقبض روحي الآن ...أحيني و سأبحث و أجتهد للآخرة ، فماذا
تساوي هذه الدنيا بكل زخارفها أمام لحظة الموت ؟! ... لا تقبضني يا رب حتى
تهديني إلى الحق المبين ) . فاستجاب الله تعالى دعائي و ردّ إليّ صحتي و عافيتي
. و بدأتُ مسيرتي في البحث عن الحقيقة . صرت أتردد إلى المكتبة للقراءة و
الاطلاع على الكتب الدينية و الروحانية ... و بدأت أتنقّل من كتاب دين إلى آخر
، و أبحث في شرائع و مذاهب و فلسفات متعددة ... و ما أكثرها !!
ثم سألت نفسي بعد أن طال الطريق عليّ و كدت أتمزق بين فروعه و تشعّباته : " كم
سيلزمني من العمر حتى أختم القراءة في كل حقل من هذه الحقول ؟؟!! و كيف سأعرف
أيها منهم الحق ؟! "
عدت للرجوع إلى الخالق الهادي النور ... و دعوته أن يعينني و ينوّر بصيرتي و
يلهمني الهدى ... سبحانه . و للمرة الثانية ، منّ عليّ الكريم الحيي الذي يستحي
من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا ، و استجاب لدعائي ، إذ كنت في معرض
للكتاب فوقع بصري على المصحف الشريف و انشرح له صدري ... فاشتريته ، و صرت أقرأ
فيه قبل النوم ليلاً و بعد الاستيقاظ صباحاً ، و بدأت أشعر براحة نفسية ملحوظة
، و صرت أجد فيه حلاً لكثير من مشاكلي و ذهاباً لكثير من همّي و غمّي و حزني .
بعد شهور جاء رمضان الخير و الرحمة و البركة ، و شعرت بهاتف داخلي يدعوني لصيام
هذا الشهر فلبّيت النداء ، و بدأت رحلتي الروحية مع الصيام و القرآن و الدعاء .
عشت في رمضان أمتع لحظات حياتي ، و خاصة تلك التي قبل الإفطار ، إذ كنت أخرج
إلى الشرفة أدعو و أناجي الخالق و أسبحه دون أن أكترث ببرد الشتاء آنذاك ،
فحرارة الإيمان بداخلي كانت تكفيني !
وأذكر أني دعوت الله حينها بدعوات ثلاث كانت كلها مستجابة و بفترة وجيزة مما
زادني إيماناً و تثبيتاً . لكن هذا المسار الذي سلكته لفت انتباه الأهل و
تساؤلاتهم ، و راحوا يحقّقون معي و يعترضونني بآرائهم و أفكارهم التي تربّوا
عليها ،إلا أني صمدت بفضل الله تعالى و ما تأثرت ، و أكّدت لهم أن هذه الأمور
تريحني نفسياً فقط فهدأوا . انتهى شهر المغفرة و الرحمة ، و مرت شهور بعده
تعطّشت روحي خلالها للمزيد من العبادات و القربات ، كنت أستيقظ في فترة السّحر
لأذكر الله بما يتيسّر و أدعوه . ثم كان صوت الآذان يصلني من بعيد من المنطقة
المجاورة في هدوء الفجر و صفائه ليجعلني أتمنى أن أقوم و أصلّي ! لكن كيف
يصلّون ؟ و من سأسأل عن كيفية الصلاة ؟ كان عندي صديقات مسلمات و لكني كنت أشعر
بالحرج من أن أسألهم ، و ظننت بأن الخوض في المسائل الدينية سوف يكون أمراً
شائكاً و حساساً و قد يوصلني إلى أمور غير مستحبة ، لذلك تركت الموضوع إلى أجل
غير مسمى . توالت الأيام ... و كأي فتاة في ريعان الصبا كان يتقدم لخطبتي
الكثير من الشبّان ، إلا أني ما وجدت منهم الشخص المناسب بسبب ذوقي الصعب في
اختياري لزوج المستقبل ، لكن أمي و بعض المقرّبين بدأوا يعظونني و ينصحونني كي
لا أعقّد المسائل كثيراً و يبيّنون لي حاجة كل فتاة إلى الزواج حتى لا يأتي
عليها يوم تجد فيه نفسها وحيدة ، و خاصة بعد وفاة الأهل و انشغال الأخوة .
فأقنعوني إلى حد ما ، فدعوت الرب تبارك و تعالى أن يرزقني بالزوج الصالح الذي
يأخذ بيدي إلى الصراط المستقيم و أتابع معه طريقي الذي ابتدأته في البحث عن
الحق !
و ما هي إلا شهور حتى تقدّم لخطبتي شاب يعمل في الإمارات ،كان هذا الشاب يتميّز
بصفات إيجابية عديدة و أهمها " الإيمان " فقد لمست كثرة ذكره لله في أول زيارة
لنا مع أمه ، و حين أتيحت الفرصة ، أسرّ لي بأنه قد صام شهر رمضان الماضي و أنه
يذهب إلى المسجد في كل يوم جمعة لحضور خطبة و صلاة الجمعة !! هذا الأمر جعلني
أوافق على الفور .و تمّت الخطوبة و كتب الكتاب ثم سافر و تبعته بعد شهرين إلى
هناك ،سافرت كعروس تحلم بحياة ملؤها الحب و الإيمان و السكينة . هبطت الطائرة
في مطار دبي ، و معها ، هبطت أحلامي الوردية إلى أرض الواقع المرير !! أجل ...فقد
فوجئت بأن زوجي و للأسف الشديد كان على عكس ما تخيّلته تماماً فيما يخص مزاجه و
أخلاقه و معاملته !! لن أطيل الوصف في هذا الجانب لكن يكفي أن أقول بأن حياتي
كانت معه ألماً و عذاباً و شقاءً و دموعاً ... كنت أحاول أن أتصبّر بالله و
أقول في نفسي ربما تكون هذه المحنة تكفيراً عن ذنوبي ، ربما صقلاً لشخصيتي ، لن
أفقد ثقتي بالله فهو لن يأتيني إلا بخير إن شاء الله تعالى... فطلبت من زوجي أن
يعلّمني الصلاة ففعل ، و ما كان يعرف آنذاك إلا ركعتي الجمعة فقط و لا يصلّي
سواهما ، فتعلمتهما و صرت أصلّيهما حين أشعر بالضيق و الغمّ . ثم رحت أتوق
للمزيد من الصلاة ، فسألت زوجي عن أوقات الصلوات و عدد الركعات ، فقال لي بأنه
لا يعلم ، و لم يشجعني كثيراً على ذلك . لكن روحي الظمأى اشتاقت لتعلّم الصلاة
على أصولها ، فمن عساي أن أسأل و أنا في بلاد الغربة و لا أعرف أحداً إلا بعض
العائلات من أهل الطائفة ؟! خطر لي أن أذهب إلى المسجد المجاور لبيتنا و أسأل
الإمام ، إلا أني خجلت و ما تجرّأت ،و خاصة أني كنت امرأة سافرة !!
لكن حين ينقطع الرجاء يبقى الأمل في رب الأرض و السماء ... رفعت يدي إليه جلّ
في علاه و دعوته أن يعلّمني و يهديني و ألححت في الدعاء ، و إذ بالجواب يأتيني
بطريقة عجيبة ! فقد كنت في أحد الأيام أنظّف المنزل و أرتّب الأدراج ، و بينما
أنا كذلك ، وقعت يدي على بطاقة مكتوب عليها بعض الآيات القرآنية ، و على خلف
البطاقة مكتوب ما يلي : صلاة الصبح ركعتان . صلاة الظهر أربع ركعات ...... الخ
!
طبعاً قد يكون أحد الأشخاص قد أعطاها لزوجي فوضعها في الدّرج و نسيها ، لكني
فرحت بترتيب رب العالمين كثيراً ، و لم أكد أصدّق عيوني ! فتعلّمت الصلاة و
بدأت أواظب عليها .
كنت أستمتع بالصلاة كثيراً ، إلا أن صلاتي كانت من غير وضوء ! فما كنت أعرف كيف
يتوضّأون ! فكنت أدخل إلى الحمام قبل موعد الصلاة و أغتسل بشكل عشوائي ثم أصلّي
. استمرّيت هكذا لفترة من الزمن ثم بدأت الشكوك تساورني في صحة صلاتي و شعرت
بضرورة تعلّم الوضوء . لكن أنّى لي هذا ؟ و من سيعلّمني ؟!
سيعلّمني الأحد الصّمد ، العليم الخبير ! ففي أحد الأيام عاد زوجي من العمل و
بيده جريدة ، و أخبرني أن وزارة التربية تعلن عن حاجتها لمدرسين و مدرسات من
شتى الاختصاصات ، و راح يشجعني للتقدّم لأن هكذا فرصة قد لا تعوّض ، فوافقت على
فكرته و قدّمت طلباتي و بدأت أستعد لفحص المسابقة ، كان زوجي يشجّعني كثيراً
لمصلحتي و لمصلحته تبعاً ! فأخبرني بأن لديه معارف في منطقة " خورفكان " حيث
تعمل الزوجة هناك كمدرّسة و تستطيع أن تنفعني و تساعدني . فانطلقنا لزيارتهم ،
و قامت السيدة بإحضار كل ما عندها من كتب تخص طرائق التدريس، و بعد أن انتهت
الزيارة أخذنا الكتب و رجعنا إلى المنزل . و هناك ، جلست في الصالة أتصفّح
الكتب و أطّلع عليها و إذ بورقة مطوية موجودة ضمن أحد الكتب لفتت انتباهي ،
أخذت الورقة و فتحتها ، و إذ بكلمات مكتوبة بخط السيدة و بالقلم الرصاص : (
طريقة الوضوء : المضمضة ثلاث ، الاستنشاق ثلاث ....الخ) !!!
فسبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر . أخبرت زوجي بما
يحصل و علّمته مما علّمني ربي . و سبحان الله ، فقد كان يخاف الله برغم كل ما
يُظهر من سوء ، و كان يتقبّل مني ما يتعلّق بأمور الدين و إن كان يجادل و يعاند
في البداية !
كل شيء كان على ما يرام فيما يخص عبادتي ما عدا أمراً واحداً كان يريبني و
يقلقني ، إذ كانت تأتيني وساوس شيطانية و نفسانية حين كنت أتشهّد في الصلاة و
أقول : " أشهد الاّ إله إلا الله و أشهد أن محمداّ رسول الله "! فالملّة التي
كنت أنتمي إليها كانت تشكك في نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلّم ، و تثير
حوله الشبهات و لا حول و لا قوة إلا بالله !
هذا الأمر كان يعذّبني و يؤرقني ، فكنت أستيقظ في جوف الليل أو قبل الفجر لأدعو
الله أن يبصرني و يهديني ...
فو الله الذي لا إله إلا هو ، ما هي إلا أيام حتى حدث أمر غريب ، فقد زارنا
صديق زوجي الذي كان يؤثّر عليه سابقاً و يأخذه إلى المسجد لحضور خطبة و صلاة
الجمعة ، جاء ليبارك لنا في زواجنا و أحضر معه هدية ، كانت الهدية عبارة عن
شيئين اثنين : مسجّلة ، و كتاب : ( سيرة رسول الله ) !!
أخذت الكتاب بقوة و بلهفة ، و قرأته و سهرت عليه حتى الثانية صباحاً و لم اتركه
حتى أنهيته ، أنهيته و الدموع تنهمر من عيوني ثم قلت: ( أشهد ألاّ إله إلا الله
و أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) . و من ذاك اليوم صرت متيّمة في كل ما يتعلّق
بأمور الدين الإسلامي ، صرت أتابع البرامج الدينية في التلفاز بشكل دائم ،
أستمع لكلام المشائخ و أتعلّم منهم و أقارن بين ما يقولونه و بين ما كنت عليه
سابقاً ، و بدأت أهدم القديم البالي و أبني الجديد السامي . صرت مولعة بسماع
القرآن ، و أفضّله على الأغاني و المعازف من قبل أن أعرف أنها محرّمة !
و الجدير بالذكر ،أني كنت أعلّم زوجي بكل ما أتعلمه لأنه ما كان يملك الوقت
الكافي لمشاهدة البرامج بسبب دوامه الطويل و الصعب ، فكان يستمع إلي و كلّه
آذان صاغية ، و يوماً بعد يوم بدأ زوجي يتغير نحو الأفضل في أقواله و أفعاله و
أخلاقه و معاملته لي و للآخرين ، إلى أن وصلنا بفضل الله تعالى إلى مرحلة من
التآلف و الصداقة حسدت نفسي عليها !
حتى في الأمور الدنيوية صار التوفيق حليفنا ، إذ قُبلت في سلك التدريس و تعيّنت
بمدرسة من أفضل مدارس دبي من حيث الإدارة و الكادر التدريسي و غيره، و سكنا في
بيت جميل و رخيص نسبياً وقريب من مدرستي ، ثم حصلت على رخصة قيادة و اشتريت
سيارة ، و بدأ زوجي يرتقي في عمله وتتيسّر أمورنا عامة و لله الحمد . أما من
الناحية الإجتماعية فكانت علاقتنا طيبة مع الجميع ، طبعاً ما كنّا نظهر لهم
إسلامنا اتقاءً للمشاكل ، و لكنا كنا نتناقش معهم حين تسنح لنا الفرصة في بعض
الأمور التي تخص جانب العقيدة و نبيّن لهم حقيقة الإسلام بأسلوب غير مباشر ، و
بذلك كنا نتعايش بسلام مع المعارف في الإمارات و مع الأهل و الأقارب في سوريا
أثناء الإجازات . لكن ! شاء الله تعالى أن يختبر إيماننا ليعلم أنعبده في الشدة
و الضرّاء كما نعبده في الرّخاء و السراّء ! أنثبت عند المحن كما ثبت الصحابة
الكرام ! ؟ إذ يقول الله سبحانه و تعالى في سورة آل عمران :
( إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله و تلك الأيام نداولها بين الناس و
ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين * و ليمحّص
الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة و لمّا يعلم
الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصّابرين * ) . فالذي حصل أني قد بدأت أزداد
إيماناً و التزاماً حين باشرت عملي في مدرستي ، فكل ما حولي كان يعزز ذلك :
الحجاب كان ضرورياً و له جزء من درجة التقرير، و المواد التدريسية لا بد من
ربطها ببعضها و بالتربية الإسلامية ، و المحاضرات الدينية كانت تُقام في
المدرسة عند بعض المناسبات الدينية كرمضان أو ليلة الإسراء و المعراج و غيرها ،
و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كانا مستمرّان ، بالإضافة إلى توزيع الكتب
و الأشرطة الدينية على مدار السنة . ثم ازداد التزامي أكثر و أكثر بتعيين أمينة
مكتبة جديدة في المدرسة ، و قد كانت سيدة إماراتية قمّة في الالتزام و التدين و
النشاط الدعوي ، هذه الإنسانة كان لها التأثير على معظم المدرسات بشكل عام و
عليّ بشكل خاص ! فقد أحبّتني كثيراً و أحببتها أكثر في الله ، ما كنت أترك فرصة
إلا و أذهب إليها في المكتبة نجلس معاً نذكر الله و نستمع معاً إلى بعض الأشرطة
، و حين لمست مني التعطّش لطلب العلم الشرعي راحت تمدّني بالكتب و الأشرطة
الإسلامية ، و تأخذني لحضور المحاضرات الدينية . و طبعاً ما كانت تعرف شيئاً عن
حياتي الخاصة فيما يتعلّق بالدين و المذهب ، و ما أخبرت بذلك أحد . فما حدث أن
زوجي بدأ يلاحظ التزامي ، فما عاد الأمر مجرد صلاة الفرائض الخمسة و صيام رمضان
فحسب ، بل صار الأمر يتطور و يزداد يوماً بعد يوم ! صار هناك صلاة النوافل و
قيام الليل و صيام التطوع ، و الصدقات و قراءة الكتب و سماع الأشرطة و حضور
المحاضرات ...و غير ذلك من الأمور الأساسية و الفرعية في الدين التي بدأت
أطبقها في حياتي و أدعوه إليها !
هذا الأمر أقلقه و روّعه كثيراً ، و صار يعترضني و يقول لي : " لا تتطرّفي ،
إلى أين ستصلين ؟ "
لكني أكّدت له أني لست متطرّفة بل أنا أطبّق فقط دين الله تعالى ، و ذكرت له
قوله تعالى في سورة البقرة : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من
يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يُردّون إلى أشدّ العذاب
و ما الله بغافل عما تعملون ) . و كنت أعطيه أشرطة متنوعة ليستمع إليها في
السيارة في طريقه للعمل ، فكانت تؤثر به هذه الأشرطة كثيراً و تثبته و ترفع
معنوياته . و بدأنا ندعو الناس من المعارف من أهل الطائفة هناك حسب ما يتيسّر
لنا، و كان منهم من يتقبّل منّا بطريقة أو بأخرى و منهم من يعترض ، و منهم من
يقتنع لكنه يخاف من التغيير و ما يصحبه من أذى المجتمع من أهل الملّة . الجدير
بالذكر ، أني حتى ذلك الحين كنت لا أزال غير محجبة ! أقصد أني كنت أتحجب في
المدرسة أو حين أخرج بمفردي لبعض حاجاتي ، لكن حين كنت أرافق زوجي كنت أرتدي
ثياباً و زيّاً مختلفاً تماماً ، فقد كان يمنعني من الحجاب و يعترض عليه بشدة !
و في أحد الأيام ذهبت إلى المكتبة العامة في دبي ، و قد كنت أتردد إليها بأوقات
فراغي بهدف المطالعة ، فكتبها كانت مختارة و منتقاة فيما يتماشى مع الشريعة ،
أما الكتب الكفرية و الفسقية فما كان لها مكان هناك !
المهم ، قدّر الله تعالى ، و لحاجة معينة ، أن أتعرّف في المكتبة على امرأة
شامية متزوجة في الإمارات ولا تتجاوز التاسعة عشر من عمرها و تدرس في كلية
الشريعة ! من خلال الحديث معها أخبرتها بأن زوجي يمنعني من الحجاب ، فراحت تجمع
لي الأدلة من الكتاب و السنة لتقنعني بوجوب الحجاب و أنه لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق . كان كلامها مؤثراً و بليغاً إلى أقصى حد فعدت إلى المنزل و عزمت
على مواجهة زوجي في موضوع الحجاب و فعلت ذلك ، فثار بالبداية و غضب و لكني
حاولت إقناعه بشتى الطرق . و حين رأى إصراري وافق و لكن على مضض . تحجبت و كنت
سعيدة جداً بحجابي ، و هذا قادني إلى الامتناع عن مصافحة الرجال !
من ذلك الوقت بدأ الأذى لنا ممن حولنا ، فبدأت أتعرض إلى الهمز و اللمز و
الامتعاض من المحيطين ، و لكني كنت قد تهيأت نفسياً لمثل هذا و حملت نفسي على
الصبر و الثبات ، و كان لي في رسول الله صلى الله عليه و سلّم و الصحابة أسوة
حسنة . جاء موعد الإجازة و السفر إلى سورية ، كان ينتابني شعور من القلق و
الكآبة و أحس و كأن شيئاً ما سيحدث ، لكني كنت أستعيذ بالله من هذه الوساوس .
ثم سافرنا ، و هناك بدأت المأساة ! فأول شيء حدث أن تفاجأ الجميع بحجابي و عدم
مصافحتي للرجال من غير المحارم ، و عدم مصافحة زوجي للنساء من غير المحارم مما
قادنا إلى مواقف في منتهى الإحراج ! ثم تفاجأوا بزوجي يصلي ! و تيقّنوا من
إسلامنا ! فأعلنوا الحرب علينا !!
كنت ألمح الغضب و الامتقاع في وجه زوجي فأحاول تثبيته قائلة :
" و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، و لكن السخط بدأ
يظهر عليه بشكل واضح !
ثم نزلت عند أهلي و ذهب هو لزيارة أقاربه . أما أهلي و أقاربي فقد بدأت
النقاشات بيننا تعلو و تستعر ! و وقفوا جميعاً ضدي ! لكني تصبّرت بالله و قلت
بنفسي : حسبي الله و نعم الوكيل . يكفيني من البشر زوجي ، فهو معي و يساندني و
يقف بجانبي.
لكن زوجي الذي أثق به و أعلّق عليه آمالي كان قد نزل عند أقاربه و استلموه !
فما تركوا وسيلة لصدّه عن سبيل الله إلا اتبعوها ، بالوسوسة و السخرية و
التخويف و التهديد و التعنيف ... ثم بالمغريات و الزخرفات الدنيوية بشتى
أنواعها من نزهات و أكل و شرب و موسيقا و رقص و نساء كاسيات عاريات !!
فانقلب الرجل على عقبيه و انتكس !! و لا حول و لا قوة إلا بالله !!
ليس ذلك فحسب ، بل راح يغتابني و يبهّتني و يهجوني و يفشي أسراري و يذكرني
بالسوء أمام أهله و أهلي ، و يتهمني بالتطرف و التعقيد ! و يشكوني إليهم و يضع
كل الحق علي في هذا الأمر و يبرّء نفسه !
اسودت الدنيا في وجهي و ضاقت عليّ بما رحبت ، و شعرت بقمّة الأسى و الألم ،
فبكيت بحرقة ، و دعوت الله في جوف الليل و تضرّعت ! ثم غفوت بعد ذلك و إذ بي
أرى في المنام أني أقرأ القرآن ، و بينما أنا أقرأ وصلت إلى موضع سجدة فسجدت ،
و في سجودي رحت أدعو و أذكر الله ، و إذ ، سبحان الله ، بملائكة كالنور ينزلون
من السماء و يجتمعون حولي يريدون أن يأخذوني ، و شعرت بالغبطة و الانشراح
العظيم و تابعت قراءة القرآن في منامي و في الحقيقة ! فسمعتني أختي أقرأ و
أوقظتني من النوم !
هذه الرؤية ، و لله الحمد و المنّة ، ساهمت في تثبيتي إلى حد
كبير !
انتهت الإجازة الحزينة المؤلمة و عدنا إلى الإمارات ثانية ، وكان لا يزال في
نفسي شيء من الأمل في أن يعود زوجي إلى إيمانه السالف ، فحاولت أن أكلّمه فرفض
أن يسمع مني كلمة واحدة ، و راح يوبّخني بكلمات جارحة !
حاولت أن أعطيه أشرطة معينة فرفضها و رماها جانباً ، ثم منعني من سماع الأشرطة
أو قراءة الكتب أو الخروج للمحاضرات ، و طلب مني أن أقطع صلتي بصديقتي أمينة
المكتبة ، و حذّرني من أن أصلي أكثر من الفرائض ، أو أن أصوم النوافل ، و طلب
مني خلع الحجاب و ارتداء الثياب المغرية ! ثم تراجع قليلاً و سمح لي أن أتحجب و
لكن بحجاب يُظهر نصف شعري مع ثياب أنيقة تظهر المفاتن !!
طبعاً أنا رفضت معظم ما قاله ، و سايرته في موضوع الاستزادة في طلب العلم و
العبادة مؤقّتاً راجية أن يعود إلى صوابه ! لكنه عاد أسوأ مما كان عليه في
بداية زواجنا ، و صار يعاملني معاملة سيئة حين اطمأن أن أهلي ضدي في موضوع
الدين ، فقد كان يهاب منهم نوعاً ما و خاصة من والدي !
فكرت بما عساي أن أفعله ، فاتصلت بأحد أصدقائه المسلمين ، و أخبرته باختصار عن
انتكاس زوجي ، و طلبت منه أن يقف بجانبه و يحاول إرجاعه إلى إيمانه السابق ،
فتحمّس الأخ للموضوع و دعى زوجي إليه ثم كلّمه بأسلوب غير مباشر عن خطر الردّة
عن الإسلام ، و ذكّره بالآخرة و بالعقاب و الثواب ! و بذلك استطاع التأثير عليه
بعض الشيء !
عدت للدوام في المدرسة بعد فترة انقطاع ، و استقبلتني أمينة المكتبة بحفاوة ،
ثم راحت تدعوني لحضور محاضرة في مكان ما ، فاعتذرت منها ... ثم لاحظت التغيير و
الكآبة عليّ و أصرّت أن تعرف ما بي ، و لماذا أرفض الذهاب للمحاضرات ! فشعرت
أني بحاجة إلى صديقة تحمل عني أعبائي التي أثقلت كاهلي ، فدعوتها إلى زيارتي ،
ثم كلمتها عن كل تفاصيل حياتي و عن الأزمة التي أعيشها لكني لم أخبرها عن اسم
الطائفة التي كنت أنتمي لها ، فبكت و تعاطفت معي كثيراً و وعدتني أنها لن تتخلى
عني أبداً . و في اليوم التالي أحضرت لي كتاباً يتحدث عن الطوائف المنشقّة عن
الإسلام و موقف الشرع منها ، فأخذته و قرأت ما كتب فيه عن طائفتي السابقة ،
فتفاجأت بأنهم يذكرونهم أحياناً بأشياء غير صحيحة ! ثم صُعقت حين قرأت عبارة :
(و لن تُقبل توبتهم ) !!!
يا للهول !! لن تقبل توبتهم ؟! معقول ؟! هذا ظلم !! لماذا ؟! أبَعد هذا كله لن
تقبل توبتي ؟!
بكيت و بكيت ... ثم اتصلت بصديقتي و ذكرت لها ما قرأت و طلبت منها أن تقطع
صلتها بي ! فقد كنت شبه محطّمة وقتها !!
كادت المسكينة أن تجنّ ! و بكت لبكائي ،ثم اتصلت بي بعد نصف ساعة ، و قالت لي :
" أختاه ، لقد اتصلت للتوّ بمركز الدعوة و الإرشاد في دبي و التابع للمملكة
العربية السعودية ، و أخبرتهم عنك ففرحوا كثيراً بإسلامك ، و بنفس الوقت غضبوا
لما هو مكتوب في هذا الكتاب كثيراً ! و قالوا أنه غير صحيح ، فباب التوبة مفتوح
لكل الناس ما لم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها !! فأبشري أختاه !! و
يقول لك الشيخ أن تكلّميه في مركز الدعوة لتسمعيه بنفسك "
فاتصلت بالشيخ و راح يؤاسيني و يرفع معنوياتي و يثبتني بكلماته ، و عرض عليّ أن
يرسل لي مجموعة من الكتب إلى أي عنوان قريب . فشكرته كثيراً و قلت له أنه لا
يوجد عندي عنوان بريد إلا عنوان زوجي ، و هذا مُحال ! لكني سأحاول أن أجد وسيلة
لجلب الكتب إن تمكّن لي ذلك .
بعد بضعة أيام اتصلت بي صديقتي أمينة المكتبة و أخبرتني أنها اتصلت بأحد الشيوخ
الثقات فأخبرها بضرورة إشهار إسلامي !
فوافقت على ما قاله الشيخ ، و ذهبت برفقتها و دون علم زوجي إلى مركز الدعوة و
الإرشاد ، و التقيت بالشيخ الذي كان قد كلّمني بموضوع الكتب سابقاً ، و هو نائب
مدير المركز و سعودي الجنسية ، فأشهرت إسلامي بعد أن كلمني عن بعض القضايا التي
تخص الدين ، و أعطاني شهادة إشهار الإسلام و مجموعة كبيرة من الكتب و الأشرطة .
و عدت إلى المنزل و كأني قد وُلدت من جديد ، اغتسلت بنية الإسلام و شعرت براحة
نفسية عارمة . بعد بضعة أيام دعتني صديقتي أمينة المكتبة إلى زيارتها فذهبت بعد
أن أخذت موافقة زوجي . و إذ بها تخبرني بأن الشيخ قد قال لها بضرورة إشهار زوجي
لإسلامه ! (1) و إلا فأنا لا أحلّ له !! ثم جعلتني أكلّمه بنفسي كي أسمع الجواب و
رأي الشرع من ذلك . فاستصعبت الأمر عليّ كثيراً ، و عدت إلى المنزل و الهمّ
يملؤني ، كيف سأفاتحه بالموضوع ؟!
حاولت أن أتلطف إليه ، و حين شعرت بأن مزاجه رائق كلّمته بالموضوع ! فما إن سمع
ذلك حتى ثار و غضب ، و صار يزبد و يرعد ، و هددني بإخبار والدي !!
عندها ، جمعت قواي و كلمته بحزم و شدة ، و قلت له :
" اسمعني جيداً ، قد صبرت عليك كثيراً و احتملت منك الكثير ، ليس لضعفي أو لذلي
، و لكني أطيع الله في الصبر عليك ...و إن لم تشهر إسلامك ، فأنت لا تحل ّ لي "
قال : "ماذا تقصدين "
قلت " " الطلاق و هذا من حقي ! "
عندما سمع مني هذا هدأ و سكن ، و وافق على إشهار إسلامه . فقد كان يحبني كثيراً
برغم كل ما يفعله معي .
أشهر إسلامه ، و لكن هذا لم يغير شيء في أخلاقه أو سلوكه أو معاملته بل حتى في
إيمانه ! فقد كانت قناعته أن يؤدي الفرائض فحسب و لا يزيد عن ذلك قيد أنملة ، و
كل شيء أكثر من ذلك في رأيه هو عبارة عن ( تطرّف ) ... و بذلك لا يهمّه أن يجلس
مع أقوام يشربون الخمر و يرقصون و يختلطون رجالاً و نساء دون أن ينكر عليهم ذلك
.
و كانت قناعته أن لو رزقنا الله بأولاد فليس لنا أن نربيهم على الإسلام بل
نتركهم يختارون الطريق الذي يريدون !
كانت قناعته ألا يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يعارض موضوع الدعوة !
و كان يرفض موضوع سكننا في منطقة مسلمين في حال عدنا إلى سورية!
عندها شعرت بالخطر على ديني معه ، و خفت من الفتنة !
فقد كنت أصبر على طبعه و سوء أخلاقه و معاملته فقط لأنه صار مسلماً ! و لكن بعد
أن لمست هذا الضعف في إيمانه و التذبذب في عقيدته ! انعدمت المحبة نحوه و تلاشت
الثقة فيه و سقط من عيني تماماً !
و سقط من عين أهلي كذلك بعد أن عرفوا حقيقته !
ففكرت ، و استخرت ، ثم طلبت الطلاق !
رفض بالبداية ، و حاول أن يُصلح ، لكن وعوده كلها كانت زائفة !
عاودت طلب الطلاق ثانية ، و ألححت عليه ، فوافق أخيراً . تم الطلاق وافترقنا
بعد أربع سنوات من حياتنا الزوجية و لا أولاد بيننا و لله الحمد ، ثم انتقلت
لأسكن في سكن المدرسات و ما بقي لي سوى الله سبحانه فهو نعم المولى و نعم
النصير. بدأت حياة جديدة و مختلفة ، فصحيح أني صرت لوحدي في البلد ، لكن هذه
الوحدة هيأت لي جواً لطلب العلم دون أن يعترض طريقي أحد ! فقد تعرفت على أخت
شامية في السكن مجازة في حفظ القرآن بسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلّم و
على رواية حفص عن عاصم . فقصدتها و طلبت منها أن تعلمني التجويد فوافقت ، و
أتقنت تجويد القرآن و بدأت بالحفظ تحت إشرافها ، و بنفس الوقت ، كنت قد اتصلت
بشيخ مركز الدعوة و أخبرته بأخباري فأعطاني رقم تليفون إحدى الأخوات الفاضلات و
هي إماراتية مجازة في الدراسات الإسلامية و داعية لها نشاطات دعوية معتبرة ،
فاتصلت بها و صارت لي نعم الأخت المحبة و الصادقة ، و دعتني لحضور دروس في فقه
العبادات لأحد الشيوخ الإماراتيين ، فاستجبت لها و بدأت أتعلم الفقه بأدق
تفاصيله ، و كانت الأخت تمدّني بالكتب و الأشرطة عن طريق شيخ مركز الدعوة ، و
تبلغني في حال وجود أي محاضرة لأحد الدعاة . و من هنا بدأت رحلتي في طلب العلم
على أصوله بعد أن كنت أكتسبه من هنا و هناك و بشكل عشوائي ، و تولّى الشيوخ و
الأخت الداعية أمر تعليمي و تربيتي تربية إسلامية على منهج أهل السنة و الجماعة
و أهل السلف . بعد شهور من وجودي في السكن ، اتصل بي زوجي السابق و أخبرني بأنه
نادم كثيراً على كل ما فعله ، و أنه تاب و يحتاج إلى وجودي معه كثيراً ، و خاصة
أننا تعرّفنا على الإسلام معاً . ثم طلب مني أن أرجع إليه !
فكرت بالموضوع و استخرت الله فلم ينشرح صدري لذلك ، بل شعرت بالصدود و النفور
منه ، فلطالما وعدني و أخلف ، و عاهدني و غدر ، و خاصمني وفجر ! و تذكرت مواقفه
السابقة و قلت : " لا يلدغ المؤمن من جحره مرتين " . كلا ! لن أعود إليه ! و
أخبرته برفضي ثم قمت بتغيير رقم جوالي كي لا يعاود الاتصال بي ثانية !
و عندها تذكرت الماضي عندما دعوت الله أن يرزقني بالزوج الصالح الذي يأخذ بيدي
إلى الصراط المستقيم . و قلت في نفسي : ( سبحان الله
الرزاق الكريم الوهاب ! لقد استجاب دعائي و رزقني بالزوج الذي أخذ بيدي إلى
السراط المستقيم ! لكنه ما كان زوجاً صالحاً !! سبحان الله ) ثم قلت : ( أستغفر
الله العظيم ... ، فقد يُصلح الله أحواله و يلهمه رشده ، من يدري ؟؟!! ) .
ثم مرت الأيام و سمعت من بعض المقرّبين بأنه تأزّم نفسياً و عانى كثيراً بعد
انفصالنا ، و أنه قد عاد للتدين و الالتزام و يبحث بعناء عن زوجة متدينة . ثم
سمعت بعد سنة أو أكثر بأنه قد تزوج من فتاة من بنات الطائفة و لكنها و أهلها
كانوا قد أسلموا من سنين . فعلمت حينها أنه إنسان صالح ، و لكن صلاحه قد ثبت مع
امرأة أخرى غيري و ليس معي ، فسبحان الله اللطيف الخبير !
عدت لمواصلة طريقي في طلب العلم و العبادة و الدعوة ، فقد بدأت أدعو إلى الله
بعد أن تعلّمت العلم الصحيح ، و بدأت أعلّم التجويد لبضعة بنات من السكن . و
شاء الله تعالى أن أتعرف على إنسانة أردنية شاركتني غرفتي لمدة شهرين ثم غادرت
السكن بعد مجيء زوجها لتسكن معه ، هذه الإنسانة كانت نادرة الوجود بصدقها و
طيبة قلبها و التزامها . أخبرتها بقصتي فصارت لي أختاً و صديقة ، بل توأماً
لروحي ، وكانت متزوجة من إمام مسجد و شيخ داعية لا يقل عنها أخلاقاً و تديناً ،
فوجدت منهما النخوة و الشهامة و وقفوا بجانبي لأبعد الحدود حتى شعرت معهم و
كأني بين أهلي . بالإضافة طبعاً لزميلاتي في المدرسة و السكن و مشائخي الكرام .
هذا كله من رحمة الله تعالى بي ، (فمن ترك شيئاً لله عوضه الله بخير منه ) . و
هكذا استمرت حياتي ما بين الإمارات في أيام الدوام المدرسي ، و بين سورية في
فترة الإجازات ، و كنت أحاول أن أئتلف قلوب أهلي و أقاربي و أدعوهم إلى الإسلام
، فكنت أمدّهم بالكتب و الأشرطة و يدور بيننا نقاشات كثيرة ، لكن النتائج لم
تكن مرضية تماماً ، كنت أخاف عليهم و أشفق عليهم ، و يحترق قلبي لأن يستجيبوا و
يسلموا ، و خاصة والدي المريض ، فقد حاولت دعوته بشتى الطرق ، لكنه كان متأثراً
بكتب المذهب كثيراً ، و بعد سلسلة طويلة من الاجتهادات ، بدأ يغير شيئاً من
عقيدته في توحيد الله بكل معنى الكلمة و في الإيمان بالرسل ، و قد سمعته يوماً
يقول : " أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله " و كان هذا
إنجازاً رائعاً و خطوة معتبرة . سافرت إلى دبي و ما هي إلا أشهر حتى توفي !
رحمة الله عليه . بعد أن توفي والدي بدأت أمي تلحّ علي بان أترك الإمارات و
أعود إلى سورية بشكل نهائي ، لكني رفضت خوفاً على ديني من الفتنة ! و كذلك
لشعوري بالغربة القاتلة بينهم ! فسبحان الله ، بدأت أشعر أن رابطة الدين أقوى و
أمتن بكثير من رابطة الدم . و الغربة هي غربة الروح لا غربة الجسد . و رفضت
كذلك لأني أردت متابعة طريقي في طلب العلم فدروس الفقه ما كانت قد انتهت بعد
... فلم أطعهم و سافرت. لكن السؤال الذي كان يطرح نفسه دائماً هو :
إلى متى سأبقى في الإمارات ؟!
تلك البلاد الجميلة الرائعة التي عشقت هواءها و ترابها و شوارعها و مساجدها و
مدارسها و مبانيها الشامخة و حدائقها الخضراء و بحرها و حضارتها ، و رقيّها !!
تلك البلاد التي وُلدت فيها من جديد دينياً و عقائدياً و فكرياً و نفسياً !! كم
سأبقى فيها ؟! فمهما طال بقائي لا بد لي من الرحيل منها بمجرد انتهاء إقامتي و
عملي !
فالتفكير بمصيري كان يؤرقني و يقلقني ! لكني كنت أتوكل على الله و أقول لنفسي :
إن الذي هداني و أوصلني إلى هذه المرحلة لن يضيعني إن شاء الله تعالى . و حين
كان الكرب يشتد علي ، كان الله جل جلاله يكرمني ببعض الرؤى الجميلة التي كانت
تؤنسني و ترفع معنوياتي ، كرؤية النبي صلى الله عليه و سلّم ، و رؤية الأنبياء
عليهم السلام ، و رؤية الكعبة ....و غير ذلك . بعد مضي ثلاث سنوات على وجودي في
السكن ، بدأت الضغوطات تأتيني من قبل الأهل يلحّون علي لتقديم إستقالتي من
الإمارات و العودة إلى سورية ، فمن وجهة نظرهم ، كان بقائي لوحدي في بلاد
الغربة غير منطقي ، و خاصة أني قد انفصلت عن زوجي ! و لست مضطرة إلى ذلك لأن
أحوال الأهل المادية جيدة و الحمد لله ! و راحت أمي تتصل بي يومياً و تلح علي
بالرجوع !
فكرت بالموضوع و بدأت أستشير شيوخي بالأمر ، و كانوا على فريقين ، الأول و هم
الأكثر عدداً ، حذّروني من الرجوع و قالوا بأن سكني بينهم قد يعرّضني للفتنة و
التخلّي عن ثوابتي تدريجياً . و نصحوني بأن أتزوج إنساناً مسلماً ملتزماً و
أهجرهم . أما الفريق الثاني فنصحوني بالعودة ، و السكن بينهم و محاولة دعوتهم و
الأخذ بأيديهم لإنقاذهم من النار ، فهم أولى الناس بالدعوة ، و طلبوا مني أن
أمثّل لهم الإسلام في أقوالي و أفعالي و أخلاقي عسى الله أن يشرح صدورهم و أكون
سبباً في هدايتهم ، و ذكروني بالحديث : " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك
من حمر النعم " . تملّكتني الحيرة حقيقة فالأمر خطير ! إنه أكبر من أمور الدنيا
بكل ما فيها ، بل هو يخص الحياة الأبدية في الآخرة !
فكرت بالرأي الأول ، فقلت ، إن الزواج عند هذه الملة من غير أهل الطائفة هو
جريمة عظيمة بالنسبة لهم ! وكانوا في السابق يقتلون من يفعل ذلكّ، أما حالياً
فقد تغيّر معظمهم و صاروا يكتفون بهجر الفاعل و التبرؤ منه !
ثم سألت نفسي :
" هل يا ترى أقوى على هجر أهلي و عائلتي و ذويّ ؟! هل أحتمل البعد نهائياً عن
الأطفال عيال أخواتي الذين أحبهم حباً جماً ؟!
هل أستطيع أن أحرم نفسي من دخول منزل أهلي و أخواتي إلى الأبد ؟!
ياله من أمر يدمي القلب !
لكني تذكرت قول الله تعالى في سورة التوبة : ( قل إن كان آباؤكم و إخوانكم و
أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها
أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره و
الله لا يهدي القوم الفاسقين ) . فقلت إذاً أقتدي بالصحابة و الصحابيات الكرام
و أفعل ذلك محتسبة أجري عند الله تعالى !
ففسحت المجال لنفسي لأن أتعرف على بعض من كانوا يتقدمون لخطبتي ضمن الضوابط
الشرعية طبعاً ، فقد تقدّم لي العديد بعد انفصالي عن زوجي و معظمهم عن طريق
صديقاتي اللاتي أحببنني كثيراً . لكن ما حدث أني ما وجدت المناسب منهم ! بل أني
صدمت من مواقف سلبية و تصرفات سيئة من البعض صدمة كبيرة ! و خاصة أنهم كانوا من
المسلمين الملتزمين الذين من المفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم و يمثّلوا الإسلام
في سلوكهم !
حزنت و تأثرت كثيراً و أدركت أن عصر الصحابة و السلف الصالح قد ولّى !! و أن
الرجل الذي أريده غير موجود ، فأنّى لي بإنسان يعيش لله و يكون الإسلام عنده هو
أهم من أهله و ماله و ولده و نفسه ؟! أنّى لي برجل شجاع لا يخشى في الله لومة
لائم ؟!
قد ألتقي به هناك ... في الدار الآخرة إن شاء الله تعالى !
و تراجعت عن فكرة الزواج لأني صرت قلّما أثق بأحد ! و خاصة أن طريق الرجعة إلى
أهلي سوف يكون قد أغلق ! فلو تطلّقت مثلاً أو ترمّلت ، فإني سوف أتشرّد !! هذا
، بالإضافة إلى أني جرّبت أن أختبر أهلي لأعرف ردة فعلهم فيما يخص زواجي ، و إذ
بهم يقومون و لا يقعدون ! يصيحون و يبكون ! يهددون و يوعدون ! يتوسلون و
يترجّون !!
كل هذه الأمور جعلتني أعزف عن هذا الرأي و أتحول إلى الرأي الآخر . و بدأت
الاتصالات و المباحثات و المفاوضات مع الأهل و على رأسهم أمي. فوضعت شروطاً
متعددة قبل تقديم استقالتي فوافقوا عليها ، و راحت أمي تعدني و تمنّيني و تبدي
استعدادها لفعل كل ما يجعلني مرتاحة نفسياً و لو أن تبني لي مسجداً !! فقلت لها
أني لا أريد منها أن تبني لي مسجداً و لكني فقط أريد أمن أستقلّ بغرفة خاصة مع
حمامها بيرندتها، فوافقت . و راحت تؤكد لي أن الجميع يتقبّلون إسلامي و لن
يزعجني منهم أحد قط.
فقدّمت استقالتي آنذاك ، و ودعت الأخوات و الصديقات بدموع غزيرة، و جمعت أشيائي
وحاجاتي ، ثم شحنت كتبي و أشرطتي و سافرت ! كان شعوري حينها كشعور المهاجر من
ديار الوطن إلى ديار الغربة !
و حين وصلت ، وجدت كل ما حولي يثير الغضب و السخط ! و تفاجأت بأن كل ما سمعته
من وعود و أماني و كلمات معسولة من الأهل كان عبارة عن كذب و زيف !!
طبعاً ، أخي و أخواتي كانوا محايدين نوعاً ما ، لكن أمي المتعصّبة و المتشرّبة
بمذهبها بدأت تخلّ بعهودها !
فرفضت أن تعطيني غرفة ، و بدأت تعلن الحرب علي !
تألّمت كثيراً و تمنّيت لو أني متّ قبل أن أعود من الإمارات ،و كانت صدمتي فوق
التصور !
بكيت و لجأت إلى الله تعالى بالدعاء فشعرت بقوة تدفعني و تحثني أن أقاوم و لا
أستسلم !
انتظرت حتى انتهى عرس أخي و استقرّ سكنه في الشقة التي فوق شقّتنا ، ثم سافرت
كل واحدة من أخواتي إلى بيتها ، و توجهتُ إلى الغرفة المنشودة ، و أخرجتُ
الأثاث منها و بدأتُ بتنظيفها ، و عندما أرادت امي أن تتدخّل ، كلّمتها بحزم و
ذكّرتها بوعودها ، و حذرتها بأنها لو اعترضتني فإنها سترى مني فعلاً لن يسرّها
أبدا !
فسكتت و تركتني و شأني ، ثم بدأت أؤثث الغرفة على النحو الذي يناسبني ، فاشتريت
تلفاز مع " دش " كي أتمكّن من رؤية المحطات الدينية و قنوات الإمارات لأني لا
أريدها أن تغيب عن بالي لارتباطها بمخيّلتي بعصر الازدهار ! و اشتريت مكتبة
جمعت فيها كتبي و أشرطتي ، و اشتريت كمبيوتر و موبايل كي أبقى على تواصل مع
صديقاتي و مشائخي ، و فرشت الغرفة فرشاً عريياً أنيقاً كي أستقبل فيها صديقاتي
المسلمات ، و وضعت باباً يفصل بين غرفتي و حمّامي و باقي البيت ، كي تتمكن
صديقاتي من الوضوء براحتهن ، و أضفت إلى كل ذلك بعض الكماليات الأخرى ، فوضعت
مظلّة على شرفة غرفتي كي تحجبني عن الجيران ، و ملأت الشرفة بالأزهار و
النباتات ، كي أحس ببعض الشفافية و الروحانية حين أخرج لأتمشى و أقرأ أذكار
الصباح و المساء .و لم أنسى تعليق التقويم كي أتمكن من معرفة مواقيت الصلاة إذ
أني لا أسمع الآذان! لأنه لا يوجد إلا مسجداً واحداً في أقصى المدينة !
فالغالبية العظمى من سكان منطقتنا هم من غير المسلمين !
و بذلك استطعت بفضل الله سبحانه و تعالى أن أجعل لنفسي واحة خضراء في قلب
الصحراء . ثم انتقلت للخطوة الثانية ، إذ قمت بشراء شقة من الأموال التي جمعتها
في دبي و أجّرتها ، و بذلك أمّنت لنفسي مورداً مالياً لا بأس به يغنيني عن حاجة
الناس ، و عدت لمواصلة دراستي في الجامعة التي تركتها بعد زواجي و سفري . و
كذلك بدأت بمحاولة العودة للعمل في سلك التدريس هنا . و شعرت بأن التدريس سوف
يمكنني من أداء رسالة معينة في غرس الهدى و الحق في عقول الطالبات .
أما الخطوة الثالثة و الأهم ، كانت في مبادرتي مباشرةً بالاتصال مع صديقاتي
المسلمات اللاتي أعرفهنّ من أيام المعهد و الجامعة . فقد جمعتنا الدنيا في
الماضي على أمورها و مشاغلها من دراسة و محاضرات و تدريس و غير ذلك ، و ما كنا
نتطرق للحديث في الدين بسبب تعدد الطوائف ! أما في الحاضر فصارت الآخرة تجمعنا
، و حب الله و رسوله و الإسلام يضمّنا ! صرنا نجتمع بشكل دوري كل أسبوع عند
واحدة نتدارس القرآن و التفسير و الفقه ، و قمت بنسخ مكتبتي لكل واحدة منهنّ
لما فيها من صحّة و مصداقية و بُعد عن البدع و التحريف و التشويه . و أمددتهن
بما علّمني ربي من تجويد القرآن و علم على منهج أهل السنة و الجماعة ، و كنّ
يتقبّلن ذلك برغبة ، و يجتهدن في العلم و التعليم ، و الصلاح و الإصلاح .
و هكذا تفضّل الله علي سبحانه بتلك الصحبة الحسنة من أخوات فاضلات طيبات تجمع
بيننا المحبة الخالصة في الله . طبعاً هذا المسار لم يكن ممهّداً مسهّلاً أمامي
، بل كان مملوءاً بالصعوبات و الأذى من مجتمعي وخاصة من أمي التي كانت تراقب
سكناتي و حركاتي ، و لا تفتر عن توبّيخي و الصراخ في وجهي و رميي بألفاظ قاسية
جارحة ! فكانت تعترضني في حجابي و الزيّ الذي ألبسه ، و تسخر مني حين تجدني
أصلّي ، و تعنّفني حين تراني أجلس في غرفتي أتابع بعض البرامج الدينية ، و
تشتعل غضباً عندما أذهب للقاء صديقاتي المسلمات ! في بعض الأحيان كانت تتبع
أسلوب آخر في الضغط علي كي تردّني عن ديني ، فتراها تبكي و تتمارض و تقول بأنني
أنا سبب مأساتها فإن ماتت فبسببي و بحسرتها علي !
حاولت أن أتصبّر بالله و أثبت ، لكني بصراحة لا أخفي أنني قد مررت بمرحلة عشت
فيها بحرب نفسية و كآبة شديدة ! حننت فيها للإمارات و تحرّقت شوقاً للأيام
الخالية ! فبغضّ النظر عن اصطدامي مع الأهل و المجتمع ، فقد كانت الفتن تحيط بي
من كل جانب ، ف
الحمد لله رب العالمين
و الصلاة و السلام على سيد المرسلين سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين
أما بعد ...
فهذه قصتي أحببت أن أرويها لما فيها من فوائد و عبَر ، و أشهد الله تعالى على
صدقي و عدم مبالغتي في أدنى أمر من الأمور . جعلنا الله و إياكم من الذين أشارت
إليهم أعلام الهداية و وضحت لهم طريق النجاة و سلكوا سبيل الإخلاص و اليقين .
نشأت و ترعرعت في أسرة تحب العلم و تحرص عليه ، فأخي مهندس وأخواتي حاصلات على
شهادات جامعية عليا من طب و هندسة و آداب و تجارة.
أما والدي و والدتي فقد استطاعوا بعون الله تعالى أن يغرسوا فينا الكثير من
الأخلاق الحسنة و المُثل العليا و أن يكونوا لنا قدوة في هذه الأخلاق . فوالدي
ربّانا على المال الحلال، و مع أنه كان برتبة عميد و كان بإمكانه أن يجمع ثروة
فيما لا يرضي الله تعالى و لكنه أبى ذلك . و والدتي غرست فينا الأدب و العفّة و
التهذيب ، وكان كل منهما يخاف علينا و يحرص على سمعتنا . أما من ناحية الاعتقاد
، فأفراد عائلتي ما كانوا من المسلمين السّنة ،بل كانوا ينتمون إلى إحدى
الطوائف المنشقّة عن الإسلام .
عشت طفولة ممتعة بين أحضان الطبيعة ، و انتقلت من المرحلة الإبتدائية إلى
المرحلة الإعدادية و الثانوية ، و درست بعدها في معهد لإعداد المدرسين قسم
اللغة الإنكليزية ،ثم تعيّنت بعد التخرج كمدرّسة في إحدى المدارس الإعدادية في
منطقة ريفية . و بما أني كنت طموحة للأفضل ، فقد درست البكالوريا ثانية و دخلت
كلية الآداب . كل هذه السنين التي مرّت من عمري ، كانت تبدو للعيان لامعة
برّاقة ، ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من زجاج متكسّر ! فمع أني حققت نجاحاً في
مجالات شتى ... إلا أني كنت ضمنياً ضائعة وأفتقد إلى الطمأنينة و السّكينة
الرّوحية !! و خاصة في تلك السنوات الخدّاعات التي ظهر فيها الملاحدة و الكفرة
والعلمانيون لينفثوا سمومهم في عقول و نفوس الناس إلا من رحم ربّك ! فأفسدوا
الناس عامة بدعوتهم للتخلي عن إيمانهم و مبادئهم ، وأفسدوا المرأة خاصة بدعوتها
إلى التبرج و السفور و مزاحمة الرجال و مخالفة فطرتها بحجة التحرر و التخلص من
الرجعية و التخلّف !!
و بهذا ، فقد كنت ناجحة في المجال العلمي، لكن و للأسف ، كنت أنهل ثقافتي من
ماء عكر و أنا أحسب أني أحسن صنعاً !
كنت ناجحة في المجال التعليمي ، لكني بالواقع ضللت و أضللت و أنا أظن أني صلحت
و أُصلحت !!
كنت ناجحة في الحياة الإجتماعية ، و يلتفّ حولي الكثير ون يطرونني و يصفّقون لي
، و لكني ضمنيّاً كنت ضائعة و متشتتة !!
أربع و عشرون عاماً مرّوا من حياتي و أنا أعيش للحياة الدنيا ، أمرح و أضحك ،
ألبس أجمل الثياب و أتزين بأبهى زينة ، حفلات رحلات زيارات ... أما التفكير في
الآخرة فقد كنت أتناساه و لكنه ما كان ينساني !! كان يراودني من حين لآخر ليزعج
صفوتي و يقلق راحتي لبرهة من الزمن ثم يرتحل !! فكان يحضرني في مناسبات
يُقدّرها الله تعالى لي كأن أرى جنازة مثلاً تمرّ من أمامي ، أو أن أسمع قرآناً
أو قصة دينية أو وعظاً من التلفاز أو من معلمة الديانة !! فقد كنت منذ نعومة
أظافري أتأثر كثيراً و تدمع عيوني لسماع هذه الأشياء لكن لفترة وجيزة فقط ثم
أعود لأنغمس في الدنيا . المهم ، بقيت على هذا المنوال حتى جاء عام 1994 ليكون
بداية لتحوّل جذري في حياتي ، فقد بدأت الابتلاءات و المحن بشتى أنواعها تتوالى
عليّ و على عائلتي ،أزمات و أزمات اجتمعت لتهزّني من الأعماق و تجعلني أميل نحو
الهدوء و الحزن . و حُبب إلى نفسي قراءة الكتب التي تتعلق بفلسفة الوجود و
الإنسان و الروحانيات . بعد حين من الزمن ، شاء الله تعالى أن أزور خالي في
المشفى لعيادته بعد أن أجرى عملية جراحية ، و حين دخلت إلى غرفته فوجئت بضعفه و
شحوبه و حالته المتردّية ، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة متمدداً لا حول له و لا قوة
!! الجميع من حوله واقفون عاجزون لا يستطيعون نفعه بشيء !! شهدت منظراً ما
شهدته في حياتي قط ، منظر إنسان يخصّني يصارع الموت و يُحتضر ، ثم توفي و بدأ
البكاء و الصراخ يعلو ، و الرعب يسود الجو ، حاولت الثبات قدر المستطاع كي
أصبّر أسرته و أواسيهم ، لكن هذا الثبات لم يدم أكثر من فترة قليلة ثم انهارت
أعصابي بعدها و أخذوني إلى المنزل ليبعدوني عن هذا الحدث ،إلا أن هذا الحدث كان
قد انتقل ليعيش في أعماقي ، فقد صار التفكير بالموت هاجسي ، و التساؤلات خواطري
: " كيف يموت الإنسان ؟ أين تذهب روحه ؟ ماذا بعد الموت ؟ هل فكرة التقمّص
صحيحة أم ً أن الروح تعيش حياة برزخية إلى يوم القيامة ؟ هل يوجد عذاب في القبر
؟ أكيد سأموت يوماً ما ، فماذا سيحل ّ بي ؟! هل أنا على الصراط
المستقيم يا ترى أم أني في ضلال مبين ؟! ماذا ...و هل ... و كيف ...؟؟؟!!! "
عشت في دوامة و صراع فكري رهيب أرّقني و أحرقني ... و روّعت فكرة الموت و
الأمور ( الميتافيزيقية ) أيامي و لياليّ ، و جعلتني أخاف و أرتعب من البقاء في
المنزل بمفردي أو من النوم في الغرفة لوحدي دون أخواتي،و خيّمت عليّ الأوهام في
النهار و الكوابيس في الليل حتى اسودّت عيشتي ! حاولت أن أقرأ في بعض كتب
المذهب عندنا و لكني ما وجدت فيها ما يشفي آلامي . فماذا عساي أن أفعل مع هذه
المعضلة النفسيّة التي ألمّت بي؟ لا بد من الخروج منها و إلا أهلكتني !!
فكرت و فكرت ...و وصلت إلى قناعة معينة ، أنه يكفيني أن أؤمن بالله و أن أبتعد
عن المحرّمات و أحب الناس كلّهم و لا أؤذي أحداً ، و أن أعمل أعمالاً خيرية و
كفى ... ثم قررت أن أملأ أوقاتي كلّها كي لا يبقى عندي أدنى و قت من الفراغ ...
صرت أداوم في المدرسة صباحاً ، ثم في الجامعة ظهراً و عصراً ، و في المساء كنت
أعطي دروساً خصوصية لبعض الطالبات ، ثم أعود للمنزل بعد أن ينفذ وقودي فأغطّ في
نوم عميق حتى الصباح . أما يوم الجمعة فكان لتنظيف المنزل و الحياة الإجتماعية
...و يوم الثلاثاء يوم إجازتي ، خصصته لممارسة هواية من هواياتي ...فاشتريت آلة
موسيقية ( أورغ ) ، و سجّلت بمعهد خاص لتعليم العزف ... و هكذا صارت أوقاتي
مملوءة تماماً . بقيت على هذه الحال ما شاء الله لي أن أبقى ، و ظننت أني
انتصرت على أزماتي بهروبي من ذاتي ... لكن الله سبحانه أراد أن يُنبهني و
يذكّرني ! وكأنه يقول لي ( يا أمَتي أين المفرّ ؟) ... فقد مرضت مرضاً شديداً
بعد هذا العناء الطويل ، و أصبت بحمّى ألزمتني الفراش ، و تراجعت صحّتي و ضعف
جسدي و شعرت أنه قد اقترب أجلي ، تأزّمت و خفت من المصير المجهول الذي ينتظرني
، بكيت و تضرّعت إلى الله تعالى...وناجيته بدموع غزيرة و قلب محروق :
( يا رب ، سبحانك ، لماذا خلقتني و أين المصير ؟ يا رب ، هل أنا على حق أم على
باطل ؟ هل الملّة و المذهب الذي أنتمي إليه صحيح أم زائف ؟ لماذا وُلدت على هذا
المذهب و لم أولَد في غيره ؟ و هل مفروض علي أن أتّبع آبائي و أجدادي أم أني
أستطيع أن أبدّل مذهبي ؟!و إن كان، فأي دين أو مذهب أختار ؟! يا الله ...يا
رحمن يا رحيم ...لا تقبض روحي الآن ...أحيني و سأبحث و أجتهد للآخرة ، فماذا
تساوي هذه الدنيا بكل زخارفها أمام لحظة الموت ؟! ... لا تقبضني يا رب حتى
تهديني إلى الحق المبين ) . فاستجاب الله تعالى دعائي و ردّ إليّ صحتي و عافيتي
. و بدأتُ مسيرتي في البحث عن الحقيقة . صرت أتردد إلى المكتبة للقراءة و
الاطلاع على الكتب الدينية و الروحانية ... و بدأت أتنقّل من كتاب دين إلى آخر
، و أبحث في شرائع و مذاهب و فلسفات متعددة ... و ما أكثرها !!
ثم سألت نفسي بعد أن طال الطريق عليّ و كدت أتمزق بين فروعه و تشعّباته : " كم
سيلزمني من العمر حتى أختم القراءة في كل حقل من هذه الحقول ؟؟!! و كيف سأعرف
أيها منهم الحق ؟! "
عدت للرجوع إلى الخالق الهادي النور ... و دعوته أن يعينني و ينوّر بصيرتي و
يلهمني الهدى ... سبحانه . و للمرة الثانية ، منّ عليّ الكريم الحيي الذي يستحي
من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا ، و استجاب لدعائي ، إذ كنت في معرض
للكتاب فوقع بصري على المصحف الشريف و انشرح له صدري ... فاشتريته ، و صرت أقرأ
فيه قبل النوم ليلاً و بعد الاستيقاظ صباحاً ، و بدأت أشعر براحة نفسية ملحوظة
، و صرت أجد فيه حلاً لكثير من مشاكلي و ذهاباً لكثير من همّي و غمّي و حزني .
بعد شهور جاء رمضان الخير و الرحمة و البركة ، و شعرت بهاتف داخلي يدعوني لصيام
هذا الشهر فلبّيت النداء ، و بدأت رحلتي الروحية مع الصيام و القرآن و الدعاء .
عشت في رمضان أمتع لحظات حياتي ، و خاصة تلك التي قبل الإفطار ، إذ كنت أخرج
إلى الشرفة أدعو و أناجي الخالق و أسبحه دون أن أكترث ببرد الشتاء آنذاك ،
فحرارة الإيمان بداخلي كانت تكفيني !
وأذكر أني دعوت الله حينها بدعوات ثلاث كانت كلها مستجابة و بفترة وجيزة مما
زادني إيماناً و تثبيتاً . لكن هذا المسار الذي سلكته لفت انتباه الأهل و
تساؤلاتهم ، و راحوا يحقّقون معي و يعترضونني بآرائهم و أفكارهم التي تربّوا
عليها ،إلا أني صمدت بفضل الله تعالى و ما تأثرت ، و أكّدت لهم أن هذه الأمور
تريحني نفسياً فقط فهدأوا . انتهى شهر المغفرة و الرحمة ، و مرت شهور بعده
تعطّشت روحي خلالها للمزيد من العبادات و القربات ، كنت أستيقظ في فترة السّحر
لأذكر الله بما يتيسّر و أدعوه . ثم كان صوت الآذان يصلني من بعيد من المنطقة
المجاورة في هدوء الفجر و صفائه ليجعلني أتمنى أن أقوم و أصلّي ! لكن كيف
يصلّون ؟ و من سأسأل عن كيفية الصلاة ؟ كان عندي صديقات مسلمات و لكني كنت أشعر
بالحرج من أن أسألهم ، و ظننت بأن الخوض في المسائل الدينية سوف يكون أمراً
شائكاً و حساساً و قد يوصلني إلى أمور غير مستحبة ، لذلك تركت الموضوع إلى أجل
غير مسمى . توالت الأيام ... و كأي فتاة في ريعان الصبا كان يتقدم لخطبتي
الكثير من الشبّان ، إلا أني ما وجدت منهم الشخص المناسب بسبب ذوقي الصعب في
اختياري لزوج المستقبل ، لكن أمي و بعض المقرّبين بدأوا يعظونني و ينصحونني كي
لا أعقّد المسائل كثيراً و يبيّنون لي حاجة كل فتاة إلى الزواج حتى لا يأتي
عليها يوم تجد فيه نفسها وحيدة ، و خاصة بعد وفاة الأهل و انشغال الأخوة .
فأقنعوني إلى حد ما ، فدعوت الرب تبارك و تعالى أن يرزقني بالزوج الصالح الذي
يأخذ بيدي إلى الصراط المستقيم و أتابع معه طريقي الذي ابتدأته في البحث عن
الحق !
و ما هي إلا شهور حتى تقدّم لخطبتي شاب يعمل في الإمارات ،كان هذا الشاب يتميّز
بصفات إيجابية عديدة و أهمها " الإيمان " فقد لمست كثرة ذكره لله في أول زيارة
لنا مع أمه ، و حين أتيحت الفرصة ، أسرّ لي بأنه قد صام شهر رمضان الماضي و أنه
يذهب إلى المسجد في كل يوم جمعة لحضور خطبة و صلاة الجمعة !! هذا الأمر جعلني
أوافق على الفور .و تمّت الخطوبة و كتب الكتاب ثم سافر و تبعته بعد شهرين إلى
هناك ،سافرت كعروس تحلم بحياة ملؤها الحب و الإيمان و السكينة . هبطت الطائرة
في مطار دبي ، و معها ، هبطت أحلامي الوردية إلى أرض الواقع المرير !! أجل ...فقد
فوجئت بأن زوجي و للأسف الشديد كان على عكس ما تخيّلته تماماً فيما يخص مزاجه و
أخلاقه و معاملته !! لن أطيل الوصف في هذا الجانب لكن يكفي أن أقول بأن حياتي
كانت معه ألماً و عذاباً و شقاءً و دموعاً ... كنت أحاول أن أتصبّر بالله و
أقول في نفسي ربما تكون هذه المحنة تكفيراً عن ذنوبي ، ربما صقلاً لشخصيتي ، لن
أفقد ثقتي بالله فهو لن يأتيني إلا بخير إن شاء الله تعالى... فطلبت من زوجي أن
يعلّمني الصلاة ففعل ، و ما كان يعرف آنذاك إلا ركعتي الجمعة فقط و لا يصلّي
سواهما ، فتعلمتهما و صرت أصلّيهما حين أشعر بالضيق و الغمّ . ثم رحت أتوق
للمزيد من الصلاة ، فسألت زوجي عن أوقات الصلوات و عدد الركعات ، فقال لي بأنه
لا يعلم ، و لم يشجعني كثيراً على ذلك . لكن روحي الظمأى اشتاقت لتعلّم الصلاة
على أصولها ، فمن عساي أن أسأل و أنا في بلاد الغربة و لا أعرف أحداً إلا بعض
العائلات من أهل الطائفة ؟! خطر لي أن أذهب إلى المسجد المجاور لبيتنا و أسأل
الإمام ، إلا أني خجلت و ما تجرّأت ،و خاصة أني كنت امرأة سافرة !!
لكن حين ينقطع الرجاء يبقى الأمل في رب الأرض و السماء ... رفعت يدي إليه جلّ
في علاه و دعوته أن يعلّمني و يهديني و ألححت في الدعاء ، و إذ بالجواب يأتيني
بطريقة عجيبة ! فقد كنت في أحد الأيام أنظّف المنزل و أرتّب الأدراج ، و بينما
أنا كذلك ، وقعت يدي على بطاقة مكتوب عليها بعض الآيات القرآنية ، و على خلف
البطاقة مكتوب ما يلي : صلاة الصبح ركعتان . صلاة الظهر أربع ركعات ...... الخ
!
طبعاً قد يكون أحد الأشخاص قد أعطاها لزوجي فوضعها في الدّرج و نسيها ، لكني
فرحت بترتيب رب العالمين كثيراً ، و لم أكد أصدّق عيوني ! فتعلّمت الصلاة و
بدأت أواظب عليها .
كنت أستمتع بالصلاة كثيراً ، إلا أن صلاتي كانت من غير وضوء ! فما كنت أعرف كيف
يتوضّأون ! فكنت أدخل إلى الحمام قبل موعد الصلاة و أغتسل بشكل عشوائي ثم أصلّي
. استمرّيت هكذا لفترة من الزمن ثم بدأت الشكوك تساورني في صحة صلاتي و شعرت
بضرورة تعلّم الوضوء . لكن أنّى لي هذا ؟ و من سيعلّمني ؟!
سيعلّمني الأحد الصّمد ، العليم الخبير ! ففي أحد الأيام عاد زوجي من العمل و
بيده جريدة ، و أخبرني أن وزارة التربية تعلن عن حاجتها لمدرسين و مدرسات من
شتى الاختصاصات ، و راح يشجعني للتقدّم لأن هكذا فرصة قد لا تعوّض ، فوافقت على
فكرته و قدّمت طلباتي و بدأت أستعد لفحص المسابقة ، كان زوجي يشجّعني كثيراً
لمصلحتي و لمصلحته تبعاً ! فأخبرني بأن لديه معارف في منطقة " خورفكان " حيث
تعمل الزوجة هناك كمدرّسة و تستطيع أن تنفعني و تساعدني . فانطلقنا لزيارتهم ،
و قامت السيدة بإحضار كل ما عندها من كتب تخص طرائق التدريس، و بعد أن انتهت
الزيارة أخذنا الكتب و رجعنا إلى المنزل . و هناك ، جلست في الصالة أتصفّح
الكتب و أطّلع عليها و إذ بورقة مطوية موجودة ضمن أحد الكتب لفتت انتباهي ،
أخذت الورقة و فتحتها ، و إذ بكلمات مكتوبة بخط السيدة و بالقلم الرصاص : (
طريقة الوضوء : المضمضة ثلاث ، الاستنشاق ثلاث ....الخ) !!!
فسبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر . أخبرت زوجي بما
يحصل و علّمته مما علّمني ربي . و سبحان الله ، فقد كان يخاف الله برغم كل ما
يُظهر من سوء ، و كان يتقبّل مني ما يتعلّق بأمور الدين و إن كان يجادل و يعاند
في البداية !
كل شيء كان على ما يرام فيما يخص عبادتي ما عدا أمراً واحداً كان يريبني و
يقلقني ، إذ كانت تأتيني وساوس شيطانية و نفسانية حين كنت أتشهّد في الصلاة و
أقول : " أشهد الاّ إله إلا الله و أشهد أن محمداّ رسول الله "! فالملّة التي
كنت أنتمي إليها كانت تشكك في نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلّم ، و تثير
حوله الشبهات و لا حول و لا قوة إلا بالله !
هذا الأمر كان يعذّبني و يؤرقني ، فكنت أستيقظ في جوف الليل أو قبل الفجر لأدعو
الله أن يبصرني و يهديني ...
فو الله الذي لا إله إلا هو ، ما هي إلا أيام حتى حدث أمر غريب ، فقد زارنا
صديق زوجي الذي كان يؤثّر عليه سابقاً و يأخذه إلى المسجد لحضور خطبة و صلاة
الجمعة ، جاء ليبارك لنا في زواجنا و أحضر معه هدية ، كانت الهدية عبارة عن
شيئين اثنين : مسجّلة ، و كتاب : ( سيرة رسول الله ) !!
أخذت الكتاب بقوة و بلهفة ، و قرأته و سهرت عليه حتى الثانية صباحاً و لم اتركه
حتى أنهيته ، أنهيته و الدموع تنهمر من عيوني ثم قلت: ( أشهد ألاّ إله إلا الله
و أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) . و من ذاك اليوم صرت متيّمة في كل ما يتعلّق
بأمور الدين الإسلامي ، صرت أتابع البرامج الدينية في التلفاز بشكل دائم ،
أستمع لكلام المشائخ و أتعلّم منهم و أقارن بين ما يقولونه و بين ما كنت عليه
سابقاً ، و بدأت أهدم القديم البالي و أبني الجديد السامي . صرت مولعة بسماع
القرآن ، و أفضّله على الأغاني و المعازف من قبل أن أعرف أنها محرّمة !
و الجدير بالذكر ،أني كنت أعلّم زوجي بكل ما أتعلمه لأنه ما كان يملك الوقت
الكافي لمشاهدة البرامج بسبب دوامه الطويل و الصعب ، فكان يستمع إلي و كلّه
آذان صاغية ، و يوماً بعد يوم بدأ زوجي يتغير نحو الأفضل في أقواله و أفعاله و
أخلاقه و معاملته لي و للآخرين ، إلى أن وصلنا بفضل الله تعالى إلى مرحلة من
التآلف و الصداقة حسدت نفسي عليها !
حتى في الأمور الدنيوية صار التوفيق حليفنا ، إذ قُبلت في سلك التدريس و تعيّنت
بمدرسة من أفضل مدارس دبي من حيث الإدارة و الكادر التدريسي و غيره، و سكنا في
بيت جميل و رخيص نسبياً وقريب من مدرستي ، ثم حصلت على رخصة قيادة و اشتريت
سيارة ، و بدأ زوجي يرتقي في عمله وتتيسّر أمورنا عامة و لله الحمد . أما من
الناحية الإجتماعية فكانت علاقتنا طيبة مع الجميع ، طبعاً ما كنّا نظهر لهم
إسلامنا اتقاءً للمشاكل ، و لكنا كنا نتناقش معهم حين تسنح لنا الفرصة في بعض
الأمور التي تخص جانب العقيدة و نبيّن لهم حقيقة الإسلام بأسلوب غير مباشر ، و
بذلك كنا نتعايش بسلام مع المعارف في الإمارات و مع الأهل و الأقارب في سوريا
أثناء الإجازات . لكن ! شاء الله تعالى أن يختبر إيماننا ليعلم أنعبده في الشدة
و الضرّاء كما نعبده في الرّخاء و السراّء ! أنثبت عند المحن كما ثبت الصحابة
الكرام ! ؟ إذ يقول الله سبحانه و تعالى في سورة آل عمران :
( إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله و تلك الأيام نداولها بين الناس و
ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين * و ليمحّص
الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة و لمّا يعلم
الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصّابرين * ) . فالذي حصل أني قد بدأت أزداد
إيماناً و التزاماً حين باشرت عملي في مدرستي ، فكل ما حولي كان يعزز ذلك :
الحجاب كان ضرورياً و له جزء من درجة التقرير، و المواد التدريسية لا بد من
ربطها ببعضها و بالتربية الإسلامية ، و المحاضرات الدينية كانت تُقام في
المدرسة عند بعض المناسبات الدينية كرمضان أو ليلة الإسراء و المعراج و غيرها ،
و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كانا مستمرّان ، بالإضافة إلى توزيع الكتب
و الأشرطة الدينية على مدار السنة . ثم ازداد التزامي أكثر و أكثر بتعيين أمينة
مكتبة جديدة في المدرسة ، و قد كانت سيدة إماراتية قمّة في الالتزام و التدين و
النشاط الدعوي ، هذه الإنسانة كان لها التأثير على معظم المدرسات بشكل عام و
عليّ بشكل خاص ! فقد أحبّتني كثيراً و أحببتها أكثر في الله ، ما كنت أترك فرصة
إلا و أذهب إليها في المكتبة نجلس معاً نذكر الله و نستمع معاً إلى بعض الأشرطة
، و حين لمست مني التعطّش لطلب العلم الشرعي راحت تمدّني بالكتب و الأشرطة
الإسلامية ، و تأخذني لحضور المحاضرات الدينية . و طبعاً ما كانت تعرف شيئاً عن
حياتي الخاصة فيما يتعلّق بالدين و المذهب ، و ما أخبرت بذلك أحد . فما حدث أن
زوجي بدأ يلاحظ التزامي ، فما عاد الأمر مجرد صلاة الفرائض الخمسة و صيام رمضان
فحسب ، بل صار الأمر يتطور و يزداد يوماً بعد يوم ! صار هناك صلاة النوافل و
قيام الليل و صيام التطوع ، و الصدقات و قراءة الكتب و سماع الأشرطة و حضور
المحاضرات ...و غير ذلك من الأمور الأساسية و الفرعية في الدين التي بدأت
أطبقها في حياتي و أدعوه إليها !
هذا الأمر أقلقه و روّعه كثيراً ، و صار يعترضني و يقول لي : " لا تتطرّفي ،
إلى أين ستصلين ؟ "
لكني أكّدت له أني لست متطرّفة بل أنا أطبّق فقط دين الله تعالى ، و ذكرت له
قوله تعالى في سورة البقرة : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من
يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يُردّون إلى أشدّ العذاب
و ما الله بغافل عما تعملون ) . و كنت أعطيه أشرطة متنوعة ليستمع إليها في
السيارة في طريقه للعمل ، فكانت تؤثر به هذه الأشرطة كثيراً و تثبته و ترفع
معنوياته . و بدأنا ندعو الناس من المعارف من أهل الطائفة هناك حسب ما يتيسّر
لنا، و كان منهم من يتقبّل منّا بطريقة أو بأخرى و منهم من يعترض ، و منهم من
يقتنع لكنه يخاف من التغيير و ما يصحبه من أذى المجتمع من أهل الملّة . الجدير
بالذكر ، أني حتى ذلك الحين كنت لا أزال غير محجبة ! أقصد أني كنت أتحجب في
المدرسة أو حين أخرج بمفردي لبعض حاجاتي ، لكن حين كنت أرافق زوجي كنت أرتدي
ثياباً و زيّاً مختلفاً تماماً ، فقد كان يمنعني من الحجاب و يعترض عليه بشدة !
و في أحد الأيام ذهبت إلى المكتبة العامة في دبي ، و قد كنت أتردد إليها بأوقات
فراغي بهدف المطالعة ، فكتبها كانت مختارة و منتقاة فيما يتماشى مع الشريعة ،
أما الكتب الكفرية و الفسقية فما كان لها مكان هناك !
المهم ، قدّر الله تعالى ، و لحاجة معينة ، أن أتعرّف في المكتبة على امرأة
شامية متزوجة في الإمارات ولا تتجاوز التاسعة عشر من عمرها و تدرس في كلية
الشريعة ! من خلال الحديث معها أخبرتها بأن زوجي يمنعني من الحجاب ، فراحت تجمع
لي الأدلة من الكتاب و السنة لتقنعني بوجوب الحجاب و أنه لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق . كان كلامها مؤثراً و بليغاً إلى أقصى حد فعدت إلى المنزل و عزمت
على مواجهة زوجي في موضوع الحجاب و فعلت ذلك ، فثار بالبداية و غضب و لكني
حاولت إقناعه بشتى الطرق . و حين رأى إصراري وافق و لكن على مضض . تحجبت و كنت
سعيدة جداً بحجابي ، و هذا قادني إلى الامتناع عن مصافحة الرجال !
من ذلك الوقت بدأ الأذى لنا ممن حولنا ، فبدأت أتعرض إلى الهمز و اللمز و
الامتعاض من المحيطين ، و لكني كنت قد تهيأت نفسياً لمثل هذا و حملت نفسي على
الصبر و الثبات ، و كان لي في رسول الله صلى الله عليه و سلّم و الصحابة أسوة
حسنة . جاء موعد الإجازة و السفر إلى سورية ، كان ينتابني شعور من القلق و
الكآبة و أحس و كأن شيئاً ما سيحدث ، لكني كنت أستعيذ بالله من هذه الوساوس .
ثم سافرنا ، و هناك بدأت المأساة ! فأول شيء حدث أن تفاجأ الجميع بحجابي و عدم
مصافحتي للرجال من غير المحارم ، و عدم مصافحة زوجي للنساء من غير المحارم مما
قادنا إلى مواقف في منتهى الإحراج ! ثم تفاجأوا بزوجي يصلي ! و تيقّنوا من
إسلامنا ! فأعلنوا الحرب علينا !!
كنت ألمح الغضب و الامتقاع في وجه زوجي فأحاول تثبيته قائلة :
" و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، و لكن السخط بدأ
يظهر عليه بشكل واضح !
ثم نزلت عند أهلي و ذهب هو لزيارة أقاربه . أما أهلي و أقاربي فقد بدأت
النقاشات بيننا تعلو و تستعر ! و وقفوا جميعاً ضدي ! لكني تصبّرت بالله و قلت
بنفسي : حسبي الله و نعم الوكيل . يكفيني من البشر زوجي ، فهو معي و يساندني و
يقف بجانبي.
لكن زوجي الذي أثق به و أعلّق عليه آمالي كان قد نزل عند أقاربه و استلموه !
فما تركوا وسيلة لصدّه عن سبيل الله إلا اتبعوها ، بالوسوسة و السخرية و
التخويف و التهديد و التعنيف ... ثم بالمغريات و الزخرفات الدنيوية بشتى
أنواعها من نزهات و أكل و شرب و موسيقا و رقص و نساء كاسيات عاريات !!
فانقلب الرجل على عقبيه و انتكس !! و لا حول و لا قوة إلا بالله !!
ليس ذلك فحسب ، بل راح يغتابني و يبهّتني و يهجوني و يفشي أسراري و يذكرني
بالسوء أمام أهله و أهلي ، و يتهمني بالتطرف و التعقيد ! و يشكوني إليهم و يضع
كل الحق علي في هذا الأمر و يبرّء نفسه !
اسودت الدنيا في وجهي و ضاقت عليّ بما رحبت ، و شعرت بقمّة الأسى و الألم ،
فبكيت بحرقة ، و دعوت الله في جوف الليل و تضرّعت ! ثم غفوت بعد ذلك و إذ بي
أرى في المنام أني أقرأ القرآن ، و بينما أنا أقرأ وصلت إلى موضع سجدة فسجدت ،
و في سجودي رحت أدعو و أذكر الله ، و إذ ، سبحان الله ، بملائكة كالنور ينزلون
من السماء و يجتمعون حولي يريدون أن يأخذوني ، و شعرت بالغبطة و الانشراح
العظيم و تابعت قراءة القرآن في منامي و في الحقيقة ! فسمعتني أختي أقرأ و
أوقظتني من النوم !
هذه الرؤية ، و لله الحمد و المنّة ، ساهمت في تثبيتي إلى حد
كبير !
انتهت الإجازة الحزينة المؤلمة و عدنا إلى الإمارات ثانية ، وكان لا يزال في
نفسي شيء من الأمل في أن يعود زوجي إلى إيمانه السالف ، فحاولت أن أكلّمه فرفض
أن يسمع مني كلمة واحدة ، و راح يوبّخني بكلمات جارحة !
حاولت أن أعطيه أشرطة معينة فرفضها و رماها جانباً ، ثم منعني من سماع الأشرطة
أو قراءة الكتب أو الخروج للمحاضرات ، و طلب مني أن أقطع صلتي بصديقتي أمينة
المكتبة ، و حذّرني من أن أصلي أكثر من الفرائض ، أو أن أصوم النوافل ، و طلب
مني خلع الحجاب و ارتداء الثياب المغرية ! ثم تراجع قليلاً و سمح لي أن أتحجب و
لكن بحجاب يُظهر نصف شعري مع ثياب أنيقة تظهر المفاتن !!
طبعاً أنا رفضت معظم ما قاله ، و سايرته في موضوع الاستزادة في طلب العلم و
العبادة مؤقّتاً راجية أن يعود إلى صوابه ! لكنه عاد أسوأ مما كان عليه في
بداية زواجنا ، و صار يعاملني معاملة سيئة حين اطمأن أن أهلي ضدي في موضوع
الدين ، فقد كان يهاب منهم نوعاً ما و خاصة من والدي !
فكرت بما عساي أن أفعله ، فاتصلت بأحد أصدقائه المسلمين ، و أخبرته باختصار عن
انتكاس زوجي ، و طلبت منه أن يقف بجانبه و يحاول إرجاعه إلى إيمانه السابق ،
فتحمّس الأخ للموضوع و دعى زوجي إليه ثم كلّمه بأسلوب غير مباشر عن خطر الردّة
عن الإسلام ، و ذكّره بالآخرة و بالعقاب و الثواب ! و بذلك استطاع التأثير عليه
بعض الشيء !
عدت للدوام في المدرسة بعد فترة انقطاع ، و استقبلتني أمينة المكتبة بحفاوة ،
ثم راحت تدعوني لحضور محاضرة في مكان ما ، فاعتذرت منها ... ثم لاحظت التغيير و
الكآبة عليّ و أصرّت أن تعرف ما بي ، و لماذا أرفض الذهاب للمحاضرات ! فشعرت
أني بحاجة إلى صديقة تحمل عني أعبائي التي أثقلت كاهلي ، فدعوتها إلى زيارتي ،
ثم كلمتها عن كل تفاصيل حياتي و عن الأزمة التي أعيشها لكني لم أخبرها عن اسم
الطائفة التي كنت أنتمي لها ، فبكت و تعاطفت معي كثيراً و وعدتني أنها لن تتخلى
عني أبداً . و في اليوم التالي أحضرت لي كتاباً يتحدث عن الطوائف المنشقّة عن
الإسلام و موقف الشرع منها ، فأخذته و قرأت ما كتب فيه عن طائفتي السابقة ،
فتفاجأت بأنهم يذكرونهم أحياناً بأشياء غير صحيحة ! ثم صُعقت حين قرأت عبارة :
(و لن تُقبل توبتهم ) !!!
يا للهول !! لن تقبل توبتهم ؟! معقول ؟! هذا ظلم !! لماذا ؟! أبَعد هذا كله لن
تقبل توبتي ؟!
بكيت و بكيت ... ثم اتصلت بصديقتي و ذكرت لها ما قرأت و طلبت منها أن تقطع
صلتها بي ! فقد كنت شبه محطّمة وقتها !!
كادت المسكينة أن تجنّ ! و بكت لبكائي ،ثم اتصلت بي بعد نصف ساعة ، و قالت لي :
" أختاه ، لقد اتصلت للتوّ بمركز الدعوة و الإرشاد في دبي و التابع للمملكة
العربية السعودية ، و أخبرتهم عنك ففرحوا كثيراً بإسلامك ، و بنفس الوقت غضبوا
لما هو مكتوب في هذا الكتاب كثيراً ! و قالوا أنه غير صحيح ، فباب التوبة مفتوح
لكل الناس ما لم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها !! فأبشري أختاه !! و
يقول لك الشيخ أن تكلّميه في مركز الدعوة لتسمعيه بنفسك "
فاتصلت بالشيخ و راح يؤاسيني و يرفع معنوياتي و يثبتني بكلماته ، و عرض عليّ أن
يرسل لي مجموعة من الكتب إلى أي عنوان قريب . فشكرته كثيراً و قلت له أنه لا
يوجد عندي عنوان بريد إلا عنوان زوجي ، و هذا مُحال ! لكني سأحاول أن أجد وسيلة
لجلب الكتب إن تمكّن لي ذلك .
بعد بضعة أيام اتصلت بي صديقتي أمينة المكتبة و أخبرتني أنها اتصلت بأحد الشيوخ
الثقات فأخبرها بضرورة إشهار إسلامي !
فوافقت على ما قاله الشيخ ، و ذهبت برفقتها و دون علم زوجي إلى مركز الدعوة و
الإرشاد ، و التقيت بالشيخ الذي كان قد كلّمني بموضوع الكتب سابقاً ، و هو نائب
مدير المركز و سعودي الجنسية ، فأشهرت إسلامي بعد أن كلمني عن بعض القضايا التي
تخص الدين ، و أعطاني شهادة إشهار الإسلام و مجموعة كبيرة من الكتب و الأشرطة .
و عدت إلى المنزل و كأني قد وُلدت من جديد ، اغتسلت بنية الإسلام و شعرت براحة
نفسية عارمة . بعد بضعة أيام دعتني صديقتي أمينة المكتبة إلى زيارتها فذهبت بعد
أن أخذت موافقة زوجي . و إذ بها تخبرني بأن الشيخ قد قال لها بضرورة إشهار زوجي
لإسلامه ! (1) و إلا فأنا لا أحلّ له !! ثم جعلتني أكلّمه بنفسي كي أسمع الجواب و
رأي الشرع من ذلك . فاستصعبت الأمر عليّ كثيراً ، و عدت إلى المنزل و الهمّ
يملؤني ، كيف سأفاتحه بالموضوع ؟!
حاولت أن أتلطف إليه ، و حين شعرت بأن مزاجه رائق كلّمته بالموضوع ! فما إن سمع
ذلك حتى ثار و غضب ، و صار يزبد و يرعد ، و هددني بإخبار والدي !!
عندها ، جمعت قواي و كلمته بحزم و شدة ، و قلت له :
" اسمعني جيداً ، قد صبرت عليك كثيراً و احتملت منك الكثير ، ليس لضعفي أو لذلي
، و لكني أطيع الله في الصبر عليك ...و إن لم تشهر إسلامك ، فأنت لا تحل ّ لي "
قال : "ماذا تقصدين "
قلت " " الطلاق و هذا من حقي ! "
عندما سمع مني هذا هدأ و سكن ، و وافق على إشهار إسلامه . فقد كان يحبني كثيراً
برغم كل ما يفعله معي .
أشهر إسلامه ، و لكن هذا لم يغير شيء في أخلاقه أو سلوكه أو معاملته بل حتى في
إيمانه ! فقد كانت قناعته أن يؤدي الفرائض فحسب و لا يزيد عن ذلك قيد أنملة ، و
كل شيء أكثر من ذلك في رأيه هو عبارة عن ( تطرّف ) ... و بذلك لا يهمّه أن يجلس
مع أقوام يشربون الخمر و يرقصون و يختلطون رجالاً و نساء دون أن ينكر عليهم ذلك
.
و كانت قناعته أن لو رزقنا الله بأولاد فليس لنا أن نربيهم على الإسلام بل
نتركهم يختارون الطريق الذي يريدون !
كانت قناعته ألا يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يعارض موضوع الدعوة !
و كان يرفض موضوع سكننا في منطقة مسلمين في حال عدنا إلى سورية!
عندها شعرت بالخطر على ديني معه ، و خفت من الفتنة !
فقد كنت أصبر على طبعه و سوء أخلاقه و معاملته فقط لأنه صار مسلماً ! و لكن بعد
أن لمست هذا الضعف في إيمانه و التذبذب في عقيدته ! انعدمت المحبة نحوه و تلاشت
الثقة فيه و سقط من عيني تماماً !
و سقط من عين أهلي كذلك بعد أن عرفوا حقيقته !
ففكرت ، و استخرت ، ثم طلبت الطلاق !
رفض بالبداية ، و حاول أن يُصلح ، لكن وعوده كلها كانت زائفة !
عاودت طلب الطلاق ثانية ، و ألححت عليه ، فوافق أخيراً . تم الطلاق وافترقنا
بعد أربع سنوات من حياتنا الزوجية و لا أولاد بيننا و لله الحمد ، ثم انتقلت
لأسكن في سكن المدرسات و ما بقي لي سوى الله سبحانه فهو نعم المولى و نعم
النصير. بدأت حياة جديدة و مختلفة ، فصحيح أني صرت لوحدي في البلد ، لكن هذه
الوحدة هيأت لي جواً لطلب العلم دون أن يعترض طريقي أحد ! فقد تعرفت على أخت
شامية في السكن مجازة في حفظ القرآن بسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلّم و
على رواية حفص عن عاصم . فقصدتها و طلبت منها أن تعلمني التجويد فوافقت ، و
أتقنت تجويد القرآن و بدأت بالحفظ تحت إشرافها ، و بنفس الوقت ، كنت قد اتصلت
بشيخ مركز الدعوة و أخبرته بأخباري فأعطاني رقم تليفون إحدى الأخوات الفاضلات و
هي إماراتية مجازة في الدراسات الإسلامية و داعية لها نشاطات دعوية معتبرة ،
فاتصلت بها و صارت لي نعم الأخت المحبة و الصادقة ، و دعتني لحضور دروس في فقه
العبادات لأحد الشيوخ الإماراتيين ، فاستجبت لها و بدأت أتعلم الفقه بأدق
تفاصيله ، و كانت الأخت تمدّني بالكتب و الأشرطة عن طريق شيخ مركز الدعوة ، و
تبلغني في حال وجود أي محاضرة لأحد الدعاة . و من هنا بدأت رحلتي في طلب العلم
على أصوله بعد أن كنت أكتسبه من هنا و هناك و بشكل عشوائي ، و تولّى الشيوخ و
الأخت الداعية أمر تعليمي و تربيتي تربية إسلامية على منهج أهل السنة و الجماعة
و أهل السلف . بعد شهور من وجودي في السكن ، اتصل بي زوجي السابق و أخبرني بأنه
نادم كثيراً على كل ما فعله ، و أنه تاب و يحتاج إلى وجودي معه كثيراً ، و خاصة
أننا تعرّفنا على الإسلام معاً . ثم طلب مني أن أرجع إليه !
فكرت بالموضوع و استخرت الله فلم ينشرح صدري لذلك ، بل شعرت بالصدود و النفور
منه ، فلطالما وعدني و أخلف ، و عاهدني و غدر ، و خاصمني وفجر ! و تذكرت مواقفه
السابقة و قلت : " لا يلدغ المؤمن من جحره مرتين " . كلا ! لن أعود إليه ! و
أخبرته برفضي ثم قمت بتغيير رقم جوالي كي لا يعاود الاتصال بي ثانية !
و عندها تذكرت الماضي عندما دعوت الله أن يرزقني بالزوج الصالح الذي يأخذ بيدي
إلى الصراط المستقيم . و قلت في نفسي : ( سبحان الله
الرزاق الكريم الوهاب ! لقد استجاب دعائي و رزقني بالزوج الذي أخذ بيدي إلى
السراط المستقيم ! لكنه ما كان زوجاً صالحاً !! سبحان الله ) ثم قلت : ( أستغفر
الله العظيم ... ، فقد يُصلح الله أحواله و يلهمه رشده ، من يدري ؟؟!! ) .
ثم مرت الأيام و سمعت من بعض المقرّبين بأنه تأزّم نفسياً و عانى كثيراً بعد
انفصالنا ، و أنه قد عاد للتدين و الالتزام و يبحث بعناء عن زوجة متدينة . ثم
سمعت بعد سنة أو أكثر بأنه قد تزوج من فتاة من بنات الطائفة و لكنها و أهلها
كانوا قد أسلموا من سنين . فعلمت حينها أنه إنسان صالح ، و لكن صلاحه قد ثبت مع
امرأة أخرى غيري و ليس معي ، فسبحان الله اللطيف الخبير !
عدت لمواصلة طريقي في طلب العلم و العبادة و الدعوة ، فقد بدأت أدعو إلى الله
بعد أن تعلّمت العلم الصحيح ، و بدأت أعلّم التجويد لبضعة بنات من السكن . و
شاء الله تعالى أن أتعرف على إنسانة أردنية شاركتني غرفتي لمدة شهرين ثم غادرت
السكن بعد مجيء زوجها لتسكن معه ، هذه الإنسانة كانت نادرة الوجود بصدقها و
طيبة قلبها و التزامها . أخبرتها بقصتي فصارت لي أختاً و صديقة ، بل توأماً
لروحي ، وكانت متزوجة من إمام مسجد و شيخ داعية لا يقل عنها أخلاقاً و تديناً ،
فوجدت منهما النخوة و الشهامة و وقفوا بجانبي لأبعد الحدود حتى شعرت معهم و
كأني بين أهلي . بالإضافة طبعاً لزميلاتي في المدرسة و السكن و مشائخي الكرام .
هذا كله من رحمة الله تعالى بي ، (فمن ترك شيئاً لله عوضه الله بخير منه ) . و
هكذا استمرت حياتي ما بين الإمارات في أيام الدوام المدرسي ، و بين سورية في
فترة الإجازات ، و كنت أحاول أن أئتلف قلوب أهلي و أقاربي و أدعوهم إلى الإسلام
، فكنت أمدّهم بالكتب و الأشرطة و يدور بيننا نقاشات كثيرة ، لكن النتائج لم
تكن مرضية تماماً ، كنت أخاف عليهم و أشفق عليهم ، و يحترق قلبي لأن يستجيبوا و
يسلموا ، و خاصة والدي المريض ، فقد حاولت دعوته بشتى الطرق ، لكنه كان متأثراً
بكتب المذهب كثيراً ، و بعد سلسلة طويلة من الاجتهادات ، بدأ يغير شيئاً من
عقيدته في توحيد الله بكل معنى الكلمة و في الإيمان بالرسل ، و قد سمعته يوماً
يقول : " أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله " و كان هذا
إنجازاً رائعاً و خطوة معتبرة . سافرت إلى دبي و ما هي إلا أشهر حتى توفي !
رحمة الله عليه . بعد أن توفي والدي بدأت أمي تلحّ علي بان أترك الإمارات و
أعود إلى سورية بشكل نهائي ، لكني رفضت خوفاً على ديني من الفتنة ! و كذلك
لشعوري بالغربة القاتلة بينهم ! فسبحان الله ، بدأت أشعر أن رابطة الدين أقوى و
أمتن بكثير من رابطة الدم . و الغربة هي غربة الروح لا غربة الجسد . و رفضت
كذلك لأني أردت متابعة طريقي في طلب العلم فدروس الفقه ما كانت قد انتهت بعد
... فلم أطعهم و سافرت. لكن السؤال الذي كان يطرح نفسه دائماً هو :
إلى متى سأبقى في الإمارات ؟!
تلك البلاد الجميلة الرائعة التي عشقت هواءها و ترابها و شوارعها و مساجدها و
مدارسها و مبانيها الشامخة و حدائقها الخضراء و بحرها و حضارتها ، و رقيّها !!
تلك البلاد التي وُلدت فيها من جديد دينياً و عقائدياً و فكرياً و نفسياً !! كم
سأبقى فيها ؟! فمهما طال بقائي لا بد لي من الرحيل منها بمجرد انتهاء إقامتي و
عملي !
فالتفكير بمصيري كان يؤرقني و يقلقني ! لكني كنت أتوكل على الله و أقول لنفسي :
إن الذي هداني و أوصلني إلى هذه المرحلة لن يضيعني إن شاء الله تعالى . و حين
كان الكرب يشتد علي ، كان الله جل جلاله يكرمني ببعض الرؤى الجميلة التي كانت
تؤنسني و ترفع معنوياتي ، كرؤية النبي صلى الله عليه و سلّم ، و رؤية الأنبياء
عليهم السلام ، و رؤية الكعبة ....و غير ذلك . بعد مضي ثلاث سنوات على وجودي في
السكن ، بدأت الضغوطات تأتيني من قبل الأهل يلحّون علي لتقديم إستقالتي من
الإمارات و العودة إلى سورية ، فمن وجهة نظرهم ، كان بقائي لوحدي في بلاد
الغربة غير منطقي ، و خاصة أني قد انفصلت عن زوجي ! و لست مضطرة إلى ذلك لأن
أحوال الأهل المادية جيدة و الحمد لله ! و راحت أمي تتصل بي يومياً و تلح علي
بالرجوع !
فكرت بالموضوع و بدأت أستشير شيوخي بالأمر ، و كانوا على فريقين ، الأول و هم
الأكثر عدداً ، حذّروني من الرجوع و قالوا بأن سكني بينهم قد يعرّضني للفتنة و
التخلّي عن ثوابتي تدريجياً . و نصحوني بأن أتزوج إنساناً مسلماً ملتزماً و
أهجرهم . أما الفريق الثاني فنصحوني بالعودة ، و السكن بينهم و محاولة دعوتهم و
الأخذ بأيديهم لإنقاذهم من النار ، فهم أولى الناس بالدعوة ، و طلبوا مني أن
أمثّل لهم الإسلام في أقوالي و أفعالي و أخلاقي عسى الله أن يشرح صدورهم و أكون
سبباً في هدايتهم ، و ذكروني بالحديث : " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك
من حمر النعم " . تملّكتني الحيرة حقيقة فالأمر خطير ! إنه أكبر من أمور الدنيا
بكل ما فيها ، بل هو يخص الحياة الأبدية في الآخرة !
فكرت بالرأي الأول ، فقلت ، إن الزواج عند هذه الملة من غير أهل الطائفة هو
جريمة عظيمة بالنسبة لهم ! وكانوا في السابق يقتلون من يفعل ذلكّ، أما حالياً
فقد تغيّر معظمهم و صاروا يكتفون بهجر الفاعل و التبرؤ منه !
ثم سألت نفسي :
" هل يا ترى أقوى على هجر أهلي و عائلتي و ذويّ ؟! هل أحتمل البعد نهائياً عن
الأطفال عيال أخواتي الذين أحبهم حباً جماً ؟!
هل أستطيع أن أحرم نفسي من دخول منزل أهلي و أخواتي إلى الأبد ؟!
ياله من أمر يدمي القلب !
لكني تذكرت قول الله تعالى في سورة التوبة : ( قل إن كان آباؤكم و إخوانكم و
أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها
أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره و
الله لا يهدي القوم الفاسقين ) . فقلت إذاً أقتدي بالصحابة و الصحابيات الكرام
و أفعل ذلك محتسبة أجري عند الله تعالى !
ففسحت المجال لنفسي لأن أتعرف على بعض من كانوا يتقدمون لخطبتي ضمن الضوابط
الشرعية طبعاً ، فقد تقدّم لي العديد بعد انفصالي عن زوجي و معظمهم عن طريق
صديقاتي اللاتي أحببنني كثيراً . لكن ما حدث أني ما وجدت المناسب منهم ! بل أني
صدمت من مواقف سلبية و تصرفات سيئة من البعض صدمة كبيرة ! و خاصة أنهم كانوا من
المسلمين الملتزمين الذين من المفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم و يمثّلوا الإسلام
في سلوكهم !
حزنت و تأثرت كثيراً و أدركت أن عصر الصحابة و السلف الصالح قد ولّى !! و أن
الرجل الذي أريده غير موجود ، فأنّى لي بإنسان يعيش لله و يكون الإسلام عنده هو
أهم من أهله و ماله و ولده و نفسه ؟! أنّى لي برجل شجاع لا يخشى في الله لومة
لائم ؟!
قد ألتقي به هناك ... في الدار الآخرة إن شاء الله تعالى !
و تراجعت عن فكرة الزواج لأني صرت قلّما أثق بأحد ! و خاصة أن طريق الرجعة إلى
أهلي سوف يكون قد أغلق ! فلو تطلّقت مثلاً أو ترمّلت ، فإني سوف أتشرّد !! هذا
، بالإضافة إلى أني جرّبت أن أختبر أهلي لأعرف ردة فعلهم فيما يخص زواجي ، و إذ
بهم يقومون و لا يقعدون ! يصيحون و يبكون ! يهددون و يوعدون ! يتوسلون و
يترجّون !!
كل هذه الأمور جعلتني أعزف عن هذا الرأي و أتحول إلى الرأي الآخر . و بدأت
الاتصالات و المباحثات و المفاوضات مع الأهل و على رأسهم أمي. فوضعت شروطاً
متعددة قبل تقديم استقالتي فوافقوا عليها ، و راحت أمي تعدني و تمنّيني و تبدي
استعدادها لفعل كل ما يجعلني مرتاحة نفسياً و لو أن تبني لي مسجداً !! فقلت لها
أني لا أريد منها أن تبني لي مسجداً و لكني فقط أريد أمن أستقلّ بغرفة خاصة مع
حمامها بيرندتها، فوافقت . و راحت تؤكد لي أن الجميع يتقبّلون إسلامي و لن
يزعجني منهم أحد قط.
فقدّمت استقالتي آنذاك ، و ودعت الأخوات و الصديقات بدموع غزيرة، و جمعت أشيائي
وحاجاتي ، ثم شحنت كتبي و أشرطتي و سافرت ! كان شعوري حينها كشعور المهاجر من
ديار الوطن إلى ديار الغربة !
و حين وصلت ، وجدت كل ما حولي يثير الغضب و السخط ! و تفاجأت بأن كل ما سمعته
من وعود و أماني و كلمات معسولة من الأهل كان عبارة عن كذب و زيف !!
طبعاً ، أخي و أخواتي كانوا محايدين نوعاً ما ، لكن أمي المتعصّبة و المتشرّبة
بمذهبها بدأت تخلّ بعهودها !
فرفضت أن تعطيني غرفة ، و بدأت تعلن الحرب علي !
تألّمت كثيراً و تمنّيت لو أني متّ قبل أن أعود من الإمارات ،و كانت صدمتي فوق
التصور !
بكيت و لجأت إلى الله تعالى بالدعاء فشعرت بقوة تدفعني و تحثني أن أقاوم و لا
أستسلم !
انتظرت حتى انتهى عرس أخي و استقرّ سكنه في الشقة التي فوق شقّتنا ، ثم سافرت
كل واحدة من أخواتي إلى بيتها ، و توجهتُ إلى الغرفة المنشودة ، و أخرجتُ
الأثاث منها و بدأتُ بتنظيفها ، و عندما أرادت امي أن تتدخّل ، كلّمتها بحزم و
ذكّرتها بوعودها ، و حذرتها بأنها لو اعترضتني فإنها سترى مني فعلاً لن يسرّها
أبدا !
فسكتت و تركتني و شأني ، ثم بدأت أؤثث الغرفة على النحو الذي يناسبني ، فاشتريت
تلفاز مع " دش " كي أتمكّن من رؤية المحطات الدينية و قنوات الإمارات لأني لا
أريدها أن تغيب عن بالي لارتباطها بمخيّلتي بعصر الازدهار ! و اشتريت مكتبة
جمعت فيها كتبي و أشرطتي ، و اشتريت كمبيوتر و موبايل كي أبقى على تواصل مع
صديقاتي و مشائخي ، و فرشت الغرفة فرشاً عريياً أنيقاً كي أستقبل فيها صديقاتي
المسلمات ، و وضعت باباً يفصل بين غرفتي و حمّامي و باقي البيت ، كي تتمكن
صديقاتي من الوضوء براحتهن ، و أضفت إلى كل ذلك بعض الكماليات الأخرى ، فوضعت
مظلّة على شرفة غرفتي كي تحجبني عن الجيران ، و ملأت الشرفة بالأزهار و
النباتات ، كي أحس ببعض الشفافية و الروحانية حين أخرج لأتمشى و أقرأ أذكار
الصباح و المساء .و لم أنسى تعليق التقويم كي أتمكن من معرفة مواقيت الصلاة إذ
أني لا أسمع الآذان! لأنه لا يوجد إلا مسجداً واحداً في أقصى المدينة !
فالغالبية العظمى من سكان منطقتنا هم من غير المسلمين !
و بذلك استطعت بفضل الله سبحانه و تعالى أن أجعل لنفسي واحة خضراء في قلب
الصحراء . ثم انتقلت للخطوة الثانية ، إذ قمت بشراء شقة من الأموال التي جمعتها
في دبي و أجّرتها ، و بذلك أمّنت لنفسي مورداً مالياً لا بأس به يغنيني عن حاجة
الناس ، و عدت لمواصلة دراستي في الجامعة التي تركتها بعد زواجي و سفري . و
كذلك بدأت بمحاولة العودة للعمل في سلك التدريس هنا . و شعرت بأن التدريس سوف
يمكنني من أداء رسالة معينة في غرس الهدى و الحق في عقول الطالبات .
أما الخطوة الثالثة و الأهم ، كانت في مبادرتي مباشرةً بالاتصال مع صديقاتي
المسلمات اللاتي أعرفهنّ من أيام المعهد و الجامعة . فقد جمعتنا الدنيا في
الماضي على أمورها و مشاغلها من دراسة و محاضرات و تدريس و غير ذلك ، و ما كنا
نتطرق للحديث في الدين بسبب تعدد الطوائف ! أما في الحاضر فصارت الآخرة تجمعنا
، و حب الله و رسوله و الإسلام يضمّنا ! صرنا نجتمع بشكل دوري كل أسبوع عند
واحدة نتدارس القرآن و التفسير و الفقه ، و قمت بنسخ مكتبتي لكل واحدة منهنّ
لما فيها من صحّة و مصداقية و بُعد عن البدع و التحريف و التشويه . و أمددتهن
بما علّمني ربي من تجويد القرآن و علم على منهج أهل السنة و الجماعة ، و كنّ
يتقبّلن ذلك برغبة ، و يجتهدن في العلم و التعليم ، و الصلاح و الإصلاح .
و هكذا تفضّل الله علي سبحانه بتلك الصحبة الحسنة من أخوات فاضلات طيبات تجمع
بيننا المحبة الخالصة في الله . طبعاً هذا المسار لم يكن ممهّداً مسهّلاً أمامي
، بل كان مملوءاً بالصعوبات و الأذى من مجتمعي وخاصة من أمي التي كانت تراقب
سكناتي و حركاتي ، و لا تفتر عن توبّيخي و الصراخ في وجهي و رميي بألفاظ قاسية
جارحة ! فكانت تعترضني في حجابي و الزيّ الذي ألبسه ، و تسخر مني حين تجدني
أصلّي ، و تعنّفني حين تراني أجلس في غرفتي أتابع بعض البرامج الدينية ، و
تشتعل غضباً عندما أذهب للقاء صديقاتي المسلمات ! في بعض الأحيان كانت تتبع
أسلوب آخر في الضغط علي كي تردّني عن ديني ، فتراها تبكي و تتمارض و تقول بأنني
أنا سبب مأساتها فإن ماتت فبسببي و بحسرتها علي !
حاولت أن أتصبّر بالله و أثبت ، لكني بصراحة لا أخفي أنني قد مررت بمرحلة عشت
فيها بحرب نفسية و كآبة شديدة ! حننت فيها للإمارات و تحرّقت شوقاً للأيام
الخالية ! فبغضّ النظر عن اصطدامي مع الأهل و المجتمع ، فقد كانت الفتن تحيط بي
من كل جانب ، ف
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء أبريل 10, 2018 10:59 am من طرف سورجي بؤ هه مووان
» معلومات عن دراسة تخصص طب الأشعة | INFORMATION ABOUT MEDICAL RADIOLOGY STUDY ABROAD
الثلاثاء أبريل 10, 2018 10:56 am من طرف سورجي بؤ هه مووان
» بحث حول إدارة الموارد البشرية
الثلاثاء أبريل 10, 2018 10:45 am من طرف سورجي بؤ هه مووان
» موضوع ترميم الآثار
الإثنين أبريل 09, 2018 12:17 pm من طرف سورجي بؤ هه مووان
» موضوع هندسة البرمجيّات
الإثنين أبريل 09, 2018 12:13 pm من طرف سورجي بؤ هه مووان
» موضوع الأسواق والمنشأت المالية "FMI
الإثنين أبريل 09, 2018 12:03 pm من طرف سورجي بؤ هه مووان
» تعريف نظم المعلومات
الإثنين أبريل 09, 2018 12:01 pm من طرف سورجي بؤ هه مووان
» موضوع عن علوم السياسية
الإثنين أبريل 09, 2018 11:59 am من طرف سورجي بؤ هه مووان
» موضوع عن الجمارك جمرك المالية
الإثنين أبريل 09, 2018 11:57 am من طرف سورجي بؤ هه مووان